طقوس الحج وشعائره عند اليمنيين القدماء (الحلقة الثالثة)

الطهارة
يتضحُ لنا من خلالِ العديد من النُّقوش المسنديّة أنّ الطهارة كانت شرطا من شروط ممارسة أي طقس ديني، أو حتى مجرد الاقتراب من المعبد، ناهيك عن دخوله، ومَن دخلَ المعبد غير طاهر لزمته الكفارة، كما تؤكد ذلك النقوش. وهي شعيرة أبقى عليها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وذكرتها تعاليم الفقه الإسلامي بعد ذلك. وفي القرآن الكريم قوله تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) البقرة: 125.
وباستقراء النُّقوش المسنديّة التي تناولت الكفارة والتوبة نجد أن أغلبها كان مرتبطا بالإخلال بشرط الطهارة في ممارسة الطقوس الدينيّة أو دخول المعابد. وهو ما يؤكد على حرمة هذه الشعيرة، وعلى عظمة الشعور بالذنب بالنسبة لمن أخلّ بها من اليمنيين قديما. وكانت ترد غالبا بلفظ "استعذر" أي استغفر وطلب الصفح، ولا تزال لهذه اللفظة استخداماتٌ إلى اليوم في بعض مناطق اليمن.
فإذا دخل إنسانٌ معبدًا وهو نجسٌ عُدّ آثمًا، وقد ورد أنّ رجلا اتصل بامرأةٍ، ثم دخل المعبد بملابسه التي كان يلبسها حين اتصل بها فُعدّ آثمًا، ودفع فدية عن إثمه، إرضاءً للآلهة، وورد أنّ رجلا دخل معبد الإله رب السماء "ذي سموي" بمعطفٍ نجس، فدفع فدية عن ذلك، جزاء ما ارتكبه من إثم..
انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 407/6.
ورجلٌ آخر أيضًا كما في النقش: (al-silwi 1)؛ حيث يذكر أنّ صاحب النقش قدم كفارة للمعبد بعد أن أعلن توبته؛ لأنه مرّ بالمعبد وهو مُحتلم. وهو ما يعني أنَّ الغسلَ كان من مُوجباتِ الاحتلام في التشريع اليمني القديم، وأنه ينجس الملابس والبدن، وقد أقرته تشريعاتُ الفقه الإسلاميّة لاحقا.
انظر: الطهارة في المعتقدات الدينيّة في جنوب الجزيرة العربيّة قبل الإسلام في ضوء نقوش المسند، باسم محمد خطاب، نسخة إلكترونية، "بي دي اف"، على الرابط: https://search.mandumah.com/Record/1117385 ص: 71.
وعثر المنقبون على أحواضٍ داخل المعابد في العربيّة الغربية، يظهر أنها كانت للوضوء، لتطهير الجسم قبل الدخول إلى المسجد.
انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، سابق، 407/6.
واشترطت التعاليم الدينيّة في اليمن القديم تطهير الثوب والجسد، كما اشترطت على من أكلَ الثوم أو البصل ألا يقرب المعبد، ويُستدلُّ على ذلك من النقش: Ja 720 من أنّ شخصين، هما: "أجرم" و "شرحم" قد قدّما تمثالا من فضة؛ لأنهما ارتكبا معصية في معبد الإله المقه، تمثل هذا الذنب في أكلهما لنباتات كريهة الرائحة كالبصل.
انظر: الطهارة في المعتقدات الدينيّة في جنوب الجزيرة العربيّة قبل الإسلام في ضوء نقوش المسند، سابق.
واعتبرت التعاليمُ الدينيّة في اليمن القديم أيضًا أن سَيَلان الدم على الجسد مُنقضٌ للطهارة، حتى ولو كان من الجرح، بل إنه ينقضُ ما سال عليه، كالثياب، أو ملامسة جسد شخص آخر، كما في النقش: Haram 13=CIH 548. وهو ما قررته أيضًا تعاليم الفقه الإسلامي.
ليس ذلك فحسب؛ بل لقد ذكر بلينوس أنّ الطهارة كانت مطلوبة لعمّال جمع اللبان أثناء جَنْيه؛ لأنّ اللبانَ من مستلزمات بيوت الآلهة.
انظر: بلينوس والجزيرة العربية، إشراف وتحرير: د. عبدالله بن عبدالرحمن العبدالجبار، ترجمة: أ. د. علي عبدالجيد، دارة الملك عبدالعزيز، 2017م، 150.
التطيُّب
لأنَّ اليمنَ بلاد الطيوب والعطور والبخور أساسًا من قديم الزمن، فقد أكثر اليمنيون من التعاطي معهما، سواء للمعابد، أم للحُجّاج أنفسهم، أثناء أداء شعيرة الحج. ولهذا تفننوا في صناعة المباخر بأنواعها وأشكالها، سواء ما كان منها خاصًا بالبيوت والاستخدامات العائلية، أم ما كان خاصًّا بالمعابد الدينية.
وتعتبرُ المباخرُ من أهمّ أثاثِ المعبد في اليمن القديم، ويعدُّ وجودها في تلك المعابد أمرًا ضروريًا؛ لأن عملية إحراق البخور فيها تعدُّ من الطقوس الدينيّة الهامة.. حيث يبدأ المتعبد بإحراق بخور قدومه للمعبد، في المباخر التي وُضعت في قدس الأقداس "المحراب"، أو في أروقة المعبد، أو في الفناء المكشوف منه. ويتم بعد ذلك تبخير القُربان أو النذر المقدم، وخاصّة متى كان من نوع القرابين أو النذور المذبوحة؛ لأنّ عمليّة حرق البخورِ في الديانةِ اليمنيّةِ القديمةِ طقسٌ شعائريٌّ، مطلوب القيام به في كل المعابد اليمنيّة القديمة.
انظر: القرابين والنذور في الديانة اليمنيّة القديمة، هزاع محمد عبدالله سيف الحمادي، أطروحة دكتوراه، جامعة القاهرة، 2006م، 447، وأنظر أيضا: الفن المعماري والفكر الديني 302.
وإلى جانبِ البخور فثمة أيضًا "الرّند". وقد ورد في المعجم السبئي بأن "الرّند" نوع من الطّيب، وقد ورد ذكره في النُّقوش السبئية، كما في النقش RES 3853 حيث يذكر أن "الرند" استخدم كبخور في معابدِ اليمن.
انظر: تجارة البخور في جنوب شبه الجزيرة العربيّة في الفترة من القرن العاشر حتى نهاية القرن الأول قبل الميلاد، "رسالة ماجستير"، أسامة محمود عبدالمولى، جامعة الزقازيق، مصر، 2003م. 30.
الإحرام
كان الحج في الجاهلية يعرف الإحرام، كما كانت تعرفه الشُّعوب السّامية الأخرى في حجها، وهو حالة تنسُّكٍ قريبة من الحِداد، انتظارًا لتجلي المعبود وعفوه عن عباده.
انظر: د. حسن ظاظا، الجزيرة العربيّة قبل الإسلام، دراسات تاريخ الجزيرة العربية، الكتاب الثاني، "مجموعة مؤلفين"، جامعة الملك سعود، ط:1، 1984م، 179.
تقديم العشور
كان الحجاج يقدمون عُشر محاصيلهم الزراعية، وكذلك يفعل التجار إلى المعابد، والتي بدورها تقومُ بصرفها في ضيافة الحجيج، وتحمل نفقات هذه المعابد على مرّ العام. وكانت العشور في التجارة والزراعة قوانين سبئية، أقرتها تعاليم الشريعة المحمدية بعد ذلك.
وقد تأثرت حضارة شمال الجزيرة العربيّة بالقوانين اليمنيّة في هذا المجال؛ حيث وجد نقشٌ نبطي في معبد العُزّى على جدار المعبد، مؤرخ بعام 27ــ 28م، من عهد الحارث الرابع، يشيرُ إلى العشور الخاصّة بالمعبد.
انظر: الحج في الفكر الديني، 201.
الحلق والتقصير
ارتبطت الشَّعائرُ الدينيّة عادة بالغسل وتقصير الشعر أو حلقه، وكذا بالطيب والبخور، ويُعتبر قص الحاج لشعره أو حلقه أحد الشَّعائر الدينيّة المرتبطة بفريضة الحج، وقد وردت أوامر الإله "تألب" لأتباعه بذلك، كما في النقش: RES 4176، وتأثرت حضارة شمال الجزيرة العربيّة بتعاليم الحج اليمني، حيث يشيرُ نقشٌ نبطيٌّ إلى أنّ المتعبدين كانوا "حليقي الشعر": (حرم كحلقت حرما دي محرم لذوشرا) أي: "أن هذا القبر حرام كحرمة محلقي معبد ذي الشّرا". كما أشارت النُّقوش الصّفوية إلى وجوب الغسل قبل الحج، كما أشار نقش آخر إلى التطيُّب أيضا، عندما حج "قصعان" إلى الإله "بعل سمين".
نفسه، 202.
وفي القرآن الكريم: (لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) الفتح: 27
الطّوَاف والسّعي
كانت شعيرتا الطواف والسّعي من الطقوس المقدسة بين المعابد الدينيّة، يؤديها الحجاج في حجهم قديمًا، وبطريقة تختلفُ ــ جزئيًا ــ عن الطريقةِ السائدةِ اليوم في الطواف والسعي حول الكعبة في مكة المكرمة، ولها أماكنها الخاصّة المقدسة بها، كما تشيرُ النُّقوش القديمة إلى ذلك، وتبدو أنها من العادات الدينيّة في كل الأديان، بما في ذلك الأديان الأرضيّة، على خلاف في التشابه بينها جميعًا.
تذكرُ الباحثة في التاريخ القديم الدكتورة فتحية حسين عقاب، نسبة إلى الدكتور محمد مرقطن، المتخصص في لغات وحضارات الشرق القديم ما نصه: يُعتبر سير الحجاج من مكانٍ إلى آخر بين الأماكنِ المقدسة شعيرة من شعائرِ الحج على مرّ العصور في معظم الحضاراتِ القديمة، وكذلك في الجزيرة العربيّة، وهو ما يشبه السّعي بين الصّفا والمروة في مكة، والذي يُعتبر شعيرة من شعائر الحج في الإسلام؛ أما قبل الإسلام فنجد عدة طرق في العربيّة الجنوبيّة "اليمن القديم" تربط بين معابد داخل المدن وخارجها، يمكن اعتبارها طرق مواكب دينيّة، مثل الطريق الذي بين معبد أوام ومعبد برآن، وكذلك طريق يبلغ طوله 6 كم في منطقة اللوذ في الجوف، ويبدأ عند سفح التل، ويتجه صعودًا للوصول للمعبد في القمة.
انظر: الحج في الفكر الديني، 206.
ولا شكّ أنّ حضارةَ شمال الجزيرة العربيّة قد تأثرت بهذه التعاليم آنذاك، فوجدنا تعاليم مشابهة عند الأنباط لما عند عرب الجنوب، فقد تم ربط أماكن مقدسة ببعضها البعض بين البتراء ومنطقة الدير.
الرمي
لم أعثر من بين النُّقوش التي اطلعتُ عليها على نصٍّ يشيرُ إلى الرمي، "رمي الجمرات" في الحج اليمني قبل الإسلام، غير أن الدكتور جواد علي في كتابه المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام يقول: رمي الجمرات بمنًى من مناسك الحج وشعائره، وهو من شعائر الحج كذلك المعروفة في المحجّات الأخرى من جزيرة العرب، كما كان معروفا عند غير العرب أيضا، وقد أشير إليه في التوراة. هذه إشارة المؤرخ المذكور، دون ذكر لتفاصيل الرمي أو تحديد يومه.
انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الدكتور جواد علي، 385.
ذبح الأضاحي
وردت في النُّقوش لفظة "ذبح"، وتعني: الذبيحة، و "ذبحم"، أي: ذبحوا، و "أذبح" والمقصود بها ذبائح، وتعد البقر والثيران والأغنام والمعز من أكثر الحيوانات شيوعًا في الذبح عند سائر الشُّعوب السّامية. تُقدم تلك الذبائح في مناسباتٍ مختلفة، كبناء منشآتٍ خاصة، أو شكر وحمد للآلهة على أمنيةٍ أو رغبةٍ تحققت، وقد تُقدم تلك القرابين جماعيّة في مناسباتٍ عامة كالحج، أو الاحتفالات الدينيّة، أو الفرديّة؛ فهناك نقشٌ Ja 949 يتحدثُ عن ملك حضرموت "يدع إل بين ربشمس"، يذكرُ القرابين التي قدمها للإله "سين" في أحد الاحتفالاتِ الدينية، فقد ذبح 35 بقرة، و 82 وعْلًا بريا، و 25 غزالا، وثمانية من الفهود.
انظر: دراسات في التاريخ الحضاري القديم، 171.
ومن الشَّعائر الدينيّة التي كان يمارسُها الحجيجُ أثناءَ تأدية فريضة الحج شعيرةُ الأضاحي، مصحوبة بالولائم لعامة الناس. وقد خُصِّصَتْ مذابحُ خاصّة في المعابد للنحر في يوم محددٍ من أيام الحج، كما سنرى.
ويشيرُ أحدُ النُّقوش إلى أمر الإله تألب ــ عن طريق الوحي ــ ذبح سبعمئة من الماشية في يومٍ واحدٍ، ويكون هذا الذبح بالوادي، كما يؤكد النقشُ على تقديم أضحيةٍ سليمة في الحج.
وكانت الثيران، ثم البقر، ثم الغنم، ثم الماعز هي الأضاحي التي يتقرب بها الناس للإله، يوم "الذبح". ويجبُ أن تكون الأضحية سليمة، وخالية من العيوب والأمراض، كما يوضح ذلك النقش: RES 4176/3- 4.
انظر: الحج في الفكر الديني 201.
والهَديُ ذبيحة تُقدم للمعبود نذرًا أو عند الحج، أصلها من الكلمة السامية "هـ و د" بمعنى الشكر والاعتراف بالفضل، ومن هذا المعنى جاء اسم النبي "هود" أي: شاكر، أو شكر.
ويشيرُ الباحث جمال محمد ناصر عوض الحسني إلى أنّ النقشَ الملكي CIAS 47. 10/ r3/c82 يُسجل القيام بالذبح المقدس للإله "عم ريعن" في معبده "قني هورن". هذا بالإضافة إلى ما جاء في النُّقوش الملكية الخاصّة بمكربي قتبان، والتي تتضمنُ صيغة واحدة تكررت فيها منذ القرن الرابع ق. م، وحتى عهد آخر مكربي قتبان، المُؤرَّخ بين نهاية القرن الأول ق. م، وبداية القرن الأول الميلادي، والتي تدل على أنها سجلت في مناسبة دينية مهمة، تخصُّ قتبان وقبائل أولاد عم، ومن المحتمل أن تكون تلك المناسبة هي طقس الحج الذي يمكن أن يجتمعوا فيه جميعًا؛ حيثُ يُلاحظ أن المكرب يذكر جميع الوظائف الدينيّة المعروفة في ديانة قتبان، وبتوجيه من الإلهين "أنبي" و "حوكم"، يأمر الكاهن العام أو الكبير بالقيام بالذبح المقدس، ولا يُستبعدُ أن ذلك الذبح كان من أجل إقامة الولائم أو المآدب الدينيّة للحجيج الذين توافدوا إلى مدينة "تمنع"، لتأدية طقس الحج للإله عم، إلههم الرئيس.
ويبدو أنّ ذلك الذبح كان يتم في شهر "ذي ذبحتم"؛ حيث جاء في النقش: MuB 522/5-7 الذي عُثر عليه في تمنع، ويؤرخ إلى عهد الملك المكرب يدع أب ذبيان بن شهر في القرن الرابع ق.م: ( و ر خ س/ ذ ذ ب ح ت م/ خ ر ف/ ذ ذ ر ح ن/ ق د م ن). أي في شهر ذي ذبحتم، من سنة ذي ذرحان الأولى. وتسمية أحد الشهور "ذي ذبحتم" توحي بأنّ الذبح المقدس كان يتم في ذلك الشهر؛ حيث عرف في ممالك اليمن القديم أنّ طقس الحج كان يتضمن إقامة الولائم أو المآدب الدينيّة للحجيج.
انظر: الإله عم وآلهة قتبان، جمال محمد ناصر عوض، 324.
كما أنّ ثمة إشارة أخرى في نقش آخر ليوم "النحر" اسمه "يوم الضّأن"، والنقشُ ينصُّ على تحريم إدخال الماشية إلى حصن ذي مخرم" إلا في يوم الضّأن الذي يأتي مرة كل عام.
انظر: التشريعات في جنوب غرب الجزيرة العربية، 172.