السبت 3 مايو 2025 10:36 مـ 6 ذو القعدة 1446 هـ
المشهد اليمني
رئيس التحرير عبد الرحمن البيل
Embedded Image
×

دروس من الفتح الأعظم (4-4)

السبت 3 مايو 2025 11:30 صـ 6 ذو القعدة 1446 هـ

15- إرساء المشروع وتقنين الأعمال:

لقد كانت غاية النبي –صلى الله عليه وسلم- من الفتح هي إعلاء كلمة الله، وسيادة الإسلام على الجزيرة العربية، وتخليص الناس من الظلم والجهل، ولم يكن فتح انتقام أو سفك دماء؛ فقد كان مشروع البناء الإيجابي والعدالة هو أساس الفتح، وهو تحقيق لقول الله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}الحج41، ولذلك شرع الرسول يوم الفتح يرسي النظام والشريعة بالعدالة ويرتب لمكة أمورها التشريعية وإنهاء كل أوضاع الجاهلية وتشريعاتها وأعرافها، فبعد أن كسر أصنام مكة، وخاصة الأصنام التي بداخل الكعبة خرج منها ووقف بباب الكعبة وقد اجتمع الناس إليه، وهو يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده..ألا كل مأثرة أو دم أو مال يًدَّعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصى ففيه الدية مغلظة؛ مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها.

يامعشر قريش.. إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظّمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب"، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}الحجرات13

لقد كان الفتح فتحاً للقلوب قبل الفتح العسكري، ورجع الرجل الذي أخرج من بلده طريداً شريداً مكللاً بالنصر والفتح المبين، وهو النبوءة والبشرى والوعد الذي وعده الله سبحانه نبيه عند تهجيره من مكة إلى المدينة لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}القصص85

تنتهي الأحقاد والضغائن وما يعلق بالنفوس من الوجد وحب الأخذ بالثأر مع إعلان الانتصار لدى القادة الحكماء، خاصة إن كان هذا الفتح أو الانتصار عامل استقرار لا يوجد له من يزعزعه ولا من يتربص به، وقد عمل التغيير الشامل والكلي للفصل بين مرحلتين.

في هذا الفتح لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- بواجد على أحد قدر وجده من اثنين؛ هند بنت عتبة ولذلك احتالت على النبي حتى عفى عنها، وعلى ابن عمه أبي سفيان الحارث بن عبدالمطلب؛ ذلك أن خذلان القريب وإيذاءه للقريب أشد إيلاماً على النفس من البعيد، وحتى لا يكون فتحاً أسرياً قبلياً يستغله بنو هاشم، أعرض عن أبي سفيان ولم يكلمه بسبب أن أبا سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب كان شاعراً سفيهاً آذى النبي حتى في عرضه، على الرغم أنه ابن عمه وأخوه من الرضاعة وتربه عند حليمة السعدية، وكان الأصل مناصرته والوقوف معه، غير أنه تحيز ضده وأقذع له القول والهجاء في شعره، وكان حامل راية قريش يوم أحد، ولم يرد عليه إلا شاعر النبي حسان بن ثابت - رضي الله عنه.

والأعجب من كل ذلك أنه لم يدون، ولم يروَ كثير شعر عن أبي سفيان التي يهجو فيها النبي والمسلمين، وكل ما أثر عنه هو صفاته الشعرية القوية وردود حسان عليه فقط، أو قصائده بعد ذلك في مدح النبي ورثائه، أو يوم إسلامه.

ومنها قول أبي سفيان:

لعمرك إني يوم أحمل راية

لتغلب خيلُ اللات خيل محمد

لكالمدلج الحيران أظلم ليله

فهذا أواني حين أهدى وأهتدي

هداني هادٍ غير نفسي ونالني

مع الله من طردت كل مطردِ

أصد وأنأى جاهداً عن محمدٍ

وأدعى وإنلم أنتسب من محمد

قال أهل السير: إن النبي ضرب على صدره وقال له: "أنت طردتني كل مطردِ"!

وكان أبو سفيان هذا الذي يقذع النبي في عرضه ويسبه، وهو الذي عناه حسان بن ثابت وهو يدافع عن عرض النبي –صلى الله عليه وسلم- بقوله:

ألا أبلغ أبا سفيان عني

مغلغلة فقد برح الخفاء

هجوت محمداً فأجبت عنه

وعند الله في ذلك الجزاء

فإن أبي ووالده وعرضي

لعرض محمد منكم وقاءُ

في يوم الفتح كان أبو سفيان هذا وعبدالله بن أمية بن المغيرة قد لقيا النبي -صلى الله عليه وسلم- في نيق العقاب؛ بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول على النبي، فأعرض عنهما لما يجد في نفسه عليهما من مؤاذاتهما له، فكلمته أم سلمة، فقالت: يارسول الله، ابن عمك وصهرك، قال: "لا حاجة لي بهما؛ أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال"، وما زالت تراجعه فيهما وتقول له: لا يكن ابن عمك أشقى الناس بك. قال فلما خرج الخبر إليهما بذلك، ومع أبي سفيان بُنيّ له فقال: والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً، فلما بلغ ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- رق لهما، ثم أذن لهما، فدخلا عليه وفأسلما.

وكثر الحديث في هذا الموضوع أنه كان كلما وجه وجهه ناحية النبي -صلى الله عليه وسلم- أعرض عنه، وذهب يستنجد بأبي بكر وعمر والعباس وعلي، وكلهم يهابون أن يكلموا النبي فيه لما رأوا من إعراض النبي عنه، وبعد إصرار وعنت كبيرين نصحه علي بن أبي طالب بالقول: إئت رسول الله من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}، فإنه لا يرضى أن تكون أحسن قولاً منه، ففعل أبو سفيان. فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، ثم جاء إعلان العفو الشامل عن قريش بقوله: "ما تظنون أني فاعل بكم؟!"، قالوا أخ كريم وابن أخ كريم. قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء.

... يتبع