زيارة إلى إثيوبيا
كانت زيارتي الأخيرة إلى أديس أبابا في بدايات عام 1996 حين كلفت قائماً بالأعمال وافتتاح سفارة اليمن في جنوب أفريقيا، قبل أن أنتقل للعمل سفيراً في البحرين، وبعد ذلك الانقطاع الطويل توجهت الأسبوع الماضي إلى العاصمة الإثيوبية للمشاركة في النسخة الثانية من "حوار البحر الأحمر" بدعوة من معهد الشؤون الخارجية التابع لوزارة الخارجية، وللأسف غابت المشاركة العربية، وكان حضوري بصفتي الشخصية ولا أمثل أي جهة رسمية.
كان عنوان اللقاء مثيراً ومحفزاً لقبول الدعوة كي أفهم المتغيرات التي حدثت خلال العقود الثلاثة الماضية، وكيف ترى إثيوبيا دورها في البحر الأحمر وهي التي لا تملك واجهة بحرية تمكنها من أن تصبح شريكاً مباشراً وفاعلاً فيه، وهذا على رغم أنها لا تزال تحتفظ بهياكل القوات البحرية القديمة ومستمرة في تطويرها.
الوصول إلى البحر
في اليوم الأول لوصولي أبلغني المنظمون بأني سأدير الجلسة الأولى للحوار تحت عنوان "أمن البحر الأحمر: الحرب والتحديات الأمنية الجديدة"، وبعدما اطلعت على أسماء المشاركين فيها ووجدت أن بينهم باحثين إسرائيليين، فقدمت اعتذاري عن إدارة الجلسة وتقبل المنظمون ذلك وطلبوا مني إدارة الجلسة الثانية بعنوان "استكشاف وسائل الوصول إلى المرافئ البحرية: التجارب الدولية للمشاركة في الموانئ البحرية".
كانت الجلسة الثانية مثيرة لنقاش واسع خصوصاً أن أحد المشاركين من الجانب الحكومي الإثيوبي قدم شرحاً تفصيلياً عما قال إنه أحقية بلاده في الوصول إلى البحار، مستنداً إلى التاريخ والجغرافيا القديمة وإلى ما سماه "الواقعية الجغرافية" و"دبلوماسية المرافئ" التي قال إنها تشمل دخول هذه الدبلوماسية في استغلال الفرص التي يتيحها النطاق البحري، وأشار إلى سوابق أتاحت لدول مغلقة ليس لها منافذ بحرية الحصول، عبر اتفاقات ثنائية مع دول الجوار، على حق استخدام مرافئها للأغراض التجارية.
وتحدث المسؤول الإثيوبي خلال مداخلته عن أن بلاده شريك دولي فعال في "الحرب على الإرهاب"، وأن هذا يتيح لها المطالبة بمنفذ بحري يساعدها في تنفيذ المهمة، وأنها من دون ذلك لا يمكنها الإسهام في هذا الجهد، مضيفاً أن البحر الأحمر كان جزءاً من تاريخ بلاده، وأنه من بين الأكثر كثافة سكانية في أفريقيا.
وفي معرض حديثه قال الدبلوماسي الإثيوبي إن أمن وازدهار المنطقة يمكن تحقيقه بالتفاهمات الثنائية والجماعية، في إشارة إلى مذكرة التفاهم التي وقعتها أديس أبابا مع السلطة في جمهورية أرض الصومال، والتي أثارت حفيظة وربما قلق عواصم داخل أفريقيا وخارجها.
وفي ختام كلامه قال إن وجوداً إثيوبياً في البحر الأحمر سيزيد نشاط بلاده الأمني في البحر الأحمر وتأمينه، كما سينشط العمل مع بقية الدول المطلة عليه، وألمح إلى أن الأمر لم يعد مطروحاً للنقاش، وأنه ليس لدى إثيوبيا خيار أو بديل.
لا تراجع
وكان من الواضح خلال لقاءاتي عدداً من المشاركين الإثيوبيين والأفريقيين أن القرار مسألة لن تتراجع عنها أديس أبابا، وتراه أمراً إستراتيجياً وحيوياً بالنسبة إلى مستقبل البلاد الاقتصادي والسياسي، وأن الإثيوبيين لا يريدون البقاء مرهونين باتفاق مع دولة واحدة بل يعملون على تعدد سبل كسر عزلتهم البحرية، والأهم أن الحكومة تعمل على تطوير بنيتها التحتية بطريقة سريعة لتحويلها بوابة إلى أفريقيا، وربطها بالعالم عبر واحدة من أنجح شركات الطيران التجاري.
لا شك في أن الحروب الداخلية التي خاضتها الحكومة الإثيوبية المركزية أنهكت المجتمع والاقتصاد، لكن الذي يجري فيها من نشاط متسارع لتحديث البنية التحتية مؤشر على رغبتها في تجاوز مخلفاتها، ومن الملاحظ أن الحكومة تستخدم القوة البشرية الهائلة في الأشغال العامة بدلاً من استخدام المعدات الحديثة، وذلك بغرض إيجاد مداخيل للطبقة الفقيرة التي تمثل معظم سكان البلاد.
الغياب العربي
يترك الغياب العربي عن إثيوبيا علامات استفهام كثيرة عن أسبابه، ومساحات كبيرة تتسرب من خلالها دول لها إستراتيجيات طويلة المدى مثل الصين وإسرائيل وإيران، كما تتضاعف الاستثمارات في شتى المجالات على رغم كل التعقيدات الحكومية التي لا تزال تمارس أعمالها بالأساليب الإدارية العتيقة نفسها التي خلفها النظام الاشتراكي الدموي تحت حكم منغستو مريام إلى حين هروبه الى زيمبابوي بعد سقوط العاصمة في أيدي المعارضين في مايو (أيار) عام 1991.
وستظل جذوة الحلم الإثيوبي مشتعلة في الحصول على واجهة بحرية تنهي عزلتها الجغرافية، وليس مفهوماً حتى الآن كيف ستتطور الأوضاع، وكيف ستتعامل الدول المطلة حقاً على المحيط والبحر الأحمر مع هذا الطموح المفهوم اقتصادياً وسياسياً، ولكنه حتماً يشير إلى رغبة جامحة في وضع البلاد في مركز القوة البحرية والبرية، إذ تلعب أديس أبابا دوراً أفريقياً نشطاً عبر وجود منظمة الاتحاد الأفريقي عندها، وكذلك وجودها الفعال في عضوية الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد)، وقد صادف وجودي هناك انعقاد لقاء موسع لقوى سودانية في محاول للتوصل إلى رؤى مشتركة لوقف النزف في بلادهم، وقد قلت مازحاً لبعض المشاركين السودانيين أنهم استعجلوا في أن يلحقوا ببلادهم دماراً وأحقاداً في أقل من عامين، وهي فترة أقل بكثير مما احتاجه اليمنيون إلى تدمير بلادهم وتفتيتها.
ولا تخف الحكومة الإثيوبية حماستها للعب دور إقليمي محوري في منطقة شديدة الاضطراب ومليئة بالألغام العرقية والجغرافية، وفي سبيل ذلك تسلك مسارات متوازية عدة، فهي تركز على تنمية البنية التحتية من دون الدخول في مشاريع ترفيه لا تستفيد منها إلا طبقة صغيرة قادرة، وكذلك عبر إظهار قدراتها السياسية والعسكرية، وقد تمكنت بالصبر والحيلة من الانتهاء من بناء سد النهضة على رغم المعارضة من دول المصب، لأنها ترى أنه يمثل عصب التطور الاقتصادي والاجتماعي في بلد لا تغطي الكهرباء معظم أراضيه.
ستبقى إثيوبيا بلداً مهماً في قلب أفريقيا يحمل الناس فيه إرثاً إمبراطورياً تحاول الحكومة إعادة الحياة إليه، وهي تفهم أن عزلتها يجب أن تنتهي بأي ثمن، ولا سبيل إلا باقتحام الجغرافيا ووضع أسطولها البحري العسكري والتجاري على شواطئ تتحكم بها.