جامع الجند وجامع صنعاء.. أيهما بني أولاً؟ (3-3)
وفي السجال الذي دار بين أبي بكر وعمر ومعاذ –رضي الله عنهم- أيضاً بشأن المال الذي تحصله من اليمن، أن معاذاً بعد مجيئه المدينة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - "قال عمر لأبي بكر: أرسل إلى هذا الرجل فدع له ما يعيشه وخذ سائره منه. فقال أبو بكر: إنما بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم - ليجبره ولست بآخذٍ منه شيئاً إلا أن يعطيني. فانطلق عمر إليه إذ لم يطعه أبو بكر فذكر ذلك لمعاذ. فقال: إنما أرسلني رسول الله إليه ليجبرني ولست بفاعل. ثم أتى معاذ عمر فقال: قد أطعتك وأنا فاعل ما أمرتني...إلخ"(المصدر السابق- صـ75)..
وبالإضافة إلى ما سبق، هناك قرائن وشواهد تدل على أن جامع الجند بني قبل جامع صنعاء، منها:
- لو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر ببناء مسجد صنعاء قبل مسجد الجند لكان أوصى ببنائه على مبرك ناقته مع معاذ.
- أن اليمنيين يحجون إلى جامع الجند ولم يحجوا إلى جامع صنعاء، بمن فيهم أهالي صنعاء وما جاورها.
- أن جامع الجند هو المعني بالرواية في الحديث الذي ذكره الحافظ ابن أبي ميسرة في إضافته إلى المساجد التي تشد إليها الرحال، ولو كان جامع صنعاء بني قبله لكان أحق بشد الرحال إليه من جامع الجند.
وهناك رواية فيها زيادة عن ما هو متعارف عليه في حديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"، وإضافة هذا المسجد للثلاثة المساجد التي تشد إليها الرحال، كما في الحديث النبوي: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"، كما هو مشهور.. لكن هناك رواية رواها المفضل الجندي في مصنفه "فضائل مكة"، قال: "حدثنا صامت بن معاذ الجندي بن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص عن أبيه عن جده (عبدالله بن عمرو) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تشد الرحال إلى أربعة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى، ومسجد الجند"، قال الحافظ عبدالملك بن أبي ميسرة: ليس في روايته كذاب ولا متروك" (السلوك في طبقات العلماء والملوك - ج1- صـ149)، قال الراوي: "وبعض الفقهاء يقول: لا ينبغي رد الخبر لوجوه؛ منها أنه من خبر الواحد ومذهبنا القول به".
- تروي بعض الروايات أن مَقْدِم معاذ إلى الجند كان عن طريق الشحر "كان معاذ يتردد بين مخلافي الجند وحضرموت، وعنه أخذ جماعة من أهلها وصحبوه، وتفقهوا به وخرجوا معه الحجاز ثم الشام، وكان عمرو بن ميمون الأودي من خواص أصحابه، فروى عنه أنه قدم معاذ من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طريق الشحر رافعاً صوته بالتهليل والتكبير، وكان حسن الصوت فألقيت عليه محبة مني فصحبته ولم أفارقه حتى حثوت عليه التراب في الشام" (السلوك في طبقات العلماء والملوك- للقاضي الجندي -ج1- صـ82).
وهذا يعني (حتى على رأي الأكوع أن مسجد صنعاء بني على مبرك ناقة رسول الله) أنه وصل الجند وبنى مسجده فيها قبل أن يصعد إلى صنعاء، لكن لم يشهر في الروايات التاريخية أن معاذاً بنى مسجد صنعاء، كما لو أن معاذاً جاء إلى الجند عن طريق صنعاء فمعنى ذلك أنه بنى مسجد صنعاء قبل، وكل ذلك يعني أن بين بناء المسجدين أشهر معدودة فقط، غير أن حديث وبر السابق يدحض هذه الرواية، ورفض نزول معاذ في البيت الذي أعده كبراء صنعاء ورده عليهم "ما هكذا أوصاني حبيبي" تؤكد أنه التزم أمر النبي حرفياً بوصوله إلى الجند أولاً وبناءه مسجدها قبل.
- وأيضاً فقد كان معاذ حريصاً على تنفيذ وصية الرسول حرفياً، وذلك حينما قدم صنعاء وقرأ رسالة الرسول على أهالي صنعاء، كما قال الأكوع في هامش قرة العيون، فقد كانوا حريصين أن ينزل فيهم ضيفاً في صنعاء، فقالوا: "يامعاذ هذا نزل قد هيأناه لك ومنزل قد فرغناه لك. فقال: ما هكذا أوصاني حبيبي" (السلوك في طبقات العلماء والملوك- للقاضي الجندي -ج1- صـ82).
مما يدل على أنه لم يمكث بينهم ولم يبن جامع صنعاء، بل ارتحل مباشرة إلى الجند لينفذ وصية النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحديث وبر السابق يدعم هذا الرأي.
وأما مسجد صعدة، الذي قال المؤرخ الأكوع أنه بني على مبرك ناقة رسول الله أيضاً، فإن معاذاً لم يكن بانيه، وربما كان بانيه خالد بن الوليد حينما بعثه النبي إلى هناك، وجدد بناءه الإمام الهادي أحمد بن الحسين الرسي، كما تقول الروايات المشهورة، وسمي باسمه وذلك في العام 283هـ؛ لأن معاذاً لم يزرها أيضاً، ولم يشهر عنه زيارتها أو المرور فيها؛ فصعدة قديماً كانت من أعمال همدان، التي تضم إلى جانبها محافظة الجوف اليوم، وكان رسولاها خالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب، وقد يكون الهادي الرسي فقط أعاد بناء مسجدها من جديد وسمي باسمه، كونه لا يعقل أن تظل صعدة دون مسجد طيلة هذه القرون، وقد كانت كل قبيلة أو رسول إليها تبني/يبني لها مسجداً. ولما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أول شيء يحرص عليه من رسله ومبعوثيه هو بناء المساجد فقد يكون خالد بن الوليد أسس مسجداً متواضعاً في صعدة أو محل ما نزل فيه، وتم تجديده على أيام الرسي واتخاذه مقراً له، ومكاناً لدعوته الإمامية. وأما مرور معاذ عليها فهو مرور الكرام لم تكن إليه فيها وصية من الرسول بل إلى الجند، ما يعني أنه أيضاً لم يبن مسجدها معاذ على مبرك ناقة رسول الله، على رأي الأكوع.
- أن الجند اتُّخِذَت عاصمة للدعوة الإسلامية في اليمن كل اليمن، وعاصمة لكثير من الدويلات حتى عهد الدولة الصليحية، ثم عادت بأواخر الدولة الأيوبية، ثم الدولة الرسولية التي كانت تتخذ من تعز والجند عاصمة لها.
- أن العام التاسع الهجري – بعد الفتح - كان عام الوفود، حيث أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - رسله وعماله ودعاته إلى جميع أنحاء الجزيرة العربية سواء كان ذلك قبل غزوة تبوك أم بعدها.
كل من يتحدث عن جامع صنعاء، وأنه الأقدم إنما يستندون إلى كتاب الرازي في تاريخ صنعاء، لكن هذا الكتاب أيضاً يجمع بين دفتيه الغث والسمين، دون تدقيق ولا تمحيص، فعلى سبيل المثال يذكر أن في مدينة صنعاء على عهده (في نهاية القرن الرابع الهجري) ثلاثة آلاف مسجد (أو حتى 300 مسجد)، في أمر لا يصدقه العقل والمنطق لمدينة صغيرة لا يصل عدد منازلها إلى هذا العدد، فضلاً عن أعداد كل تلك المساجد.