البحث عن النسخة المطابقة لرئيسي
في التاسع عشر من مايو (أيار) الجاري، وضع حادث تحطم مروحية على الحدود الإيرانية- الأذربيجانية، نهاية لحياة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، وهو الذي بدأ حياته العملية فور انتصار ثورة الخميني في عام 1979 بالانضمام مع سبعين من طلاب الحوزات الدينية لدورة في أساليب الإمساك بالحكم وجّه بها الخميني. في التاسعة عشرة من عمره شق ذاك الشاب اليافع طريقه نحو قمة هرم دولة الملالي عبر أربعة عقود قضاها في القضاء، وصولاً إلى رئاسة الجمهورية في انتخابات 2021 التي سانده فيها المرشد الأعلى شخصياً لضمان فوزه، حتى قيل إنه كان خليفته الأرجح.
لقد فطن رئيسي ببراعة للدور الذي أناطه الخميني بمجموعة من شباب الحوزات، الذين لم يتوانوا عن ارتكاب أبشع الفظائع الدموية بغية ترسيخ نظام الملالي، بل كان رئيسي أكثرهم غلواً بالغوص عميقاً في التطرف لنيل رضى الولي الفقيه والفوز بالقبول حتى نال صفة "جزار طهران". كذلك كان ديدنه أيام الخميني الذي كلفه في عام 1988 بقتل قرابة الثلاثين ألفاً من اتباع اليسار، و"مجاهدي خلق" في النسخة الخمينية من محاكم التفتيش، حيث شغل رئيسي مقعداً في "لجنة الموت" المكونة من أربعة من القضاة الملالي والتي قضت في محاكم صورية بقتل من كانوا شركاء في الثورة الإيرانية ضد نظام الشاه.
وكذلك سلك طريق الوفاء مع المرشد خامنئي في تعقب المئات من المعارضين السلميين والمدافعين عن حقوق الإنسان عبر تصديق أحكام مستعجلة ضد متظاهرين قصّر وممثلي أقليات دينية وعرقية. وحينما صار رئيساً أمعن في ممارسة نظام القمع ضد المرأة الإيرانية وكان مسؤولاً عن جرائم الباسيج ضد انتفاضة مهسا أميني. وفي تقريرها الصادر في مارس (آذار) الماضي، أكدت بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في إيران أن الحكومة الإيرانية ارتكبت جرائم ضد الإنسانية باستهدافها للمتظاهرين السلميين في سبتمبر (أيلول) 2022. ولكن رئيسي كان حتى لحظة وفاته فخوراً بذلك الرصيد المثقل بالدماء، حيث أكد في تصريحات إعلامية أنه لطالما "دافع عن أمن الشعب، وحقوق الإنسان".
رئاسة إشكالية قصيرة
هذا هو رئيسي الذي كان رئيساً لإيران خلال السنوات الثلاث الماضية، والذي لم تحظ رئاسته القصيرة بشعبية بين الإيرانيين، الذين انتفضوا ضد حكومتهم بعد أقل من عام على وصوله إلى سدة الحكم، فضلاً عما رافق رئاسته من مشكلات اقتصادية واجهت البلاد وزيادة مستويات الفقر والتضخم، وانخفاض قيمة الريال الإيراني، ولم يكن الرجل يفقه في شؤون الاقتصاد ولا الإدارة، ولم يقدم بديلاً لمواجهة التحديات الهيكلية والاجتماعية والسياسية التي تواجهها السلطة التنفيذية في إيران. إلا أن رصيده الأكبر والوحيد كان ولاءه المطلق للمرشد الأعلى، والذي وضعه في رئاسة الدولة، لأنه وجد فيه النموذج الأمثل للحفاظ على النظام الفردي الذي يقوده بالقبضة الحديدية.
وعلى رغم كارثة الموت، فإن الكثير من الإيرانيين لن يفتقدوا رئيسي الذي كان مهندس الإبادة الجماعية المروعة لآلاف المعارضين الداخليين في ثمانينيات القرن الماضي، وفي الوقت ذاته يعلم الإيرانيون أن موت رئيسي لن يغير الأمور بأي شكل من الأشكال، فهو لم يكن إلا ترساً صغيراً في ماكينة الدولة الإيرانية العميقة التي يديرها المرشد. فعلى رغم القناعة بأن النظام الإيراني يزداد هشاشة، إلا أن الإيرانيين يدركون أنه ما زال ممسكاً بتلابيبهم، وأنه من أجل الإطاحة بالنظام فالأمر سيستغرق أكثر من مجرد موت رئيسي الذي كانت سلطته شكلية على أحسن الأحوال.
ومع ذلك فقد شكل غياب رئيسي ضربة لخطط خامنئي، ليس من زاوية أنه كان مكوناً محورياً في النظام، ولكن من زاوية أن خامنئي كان يرى فيه تلميذاً مطيعاً ومطواعاً يتمتع بخصائص دقيقة أسهمت في تسهيل أداء شبكات النفوذ في أسرة المرشد والحرس الثوري وتمكينها من ممارسة نفوذها تحت غطاء مؤسسة الرئاسة للانتفاع من موارد الدولة. ولهذا ربما كان خامنئي يختزنه لقادم الأيام، فالحديث عن أن رئيسي ربما كان على رأس قائمة المرشحين لخلافة خامنئي لا يستقيم في ظل تطلعات مجتبى خامنئي للفوز بهذا المنصب الرفيع. وأرجح الاحتمالات أن المرشد كان يحضر رئيسي للقيام بمهمة تاريخية ضمن رؤيته الشخصية للانتقال من دكتاتورية الثورة الإسلامية التي ورثها من الخميني، إلى الدكتاتورية الوراثية الفردية.
رؤية خامنئي لدولة خميني
لقد استثمر خامنئي الكثير من الجهد والتفكير في تنشئة رئيسي، وفي هندسة فوزه في الانتخابات الرئاسية في 2021، فقد عمد مجلس الخبراء على إقصاء كبار المرشحين المحافظين والإصلاحيين على السواء لإفساح المجال لفوزه بخاصة بعد فشله في انتخابات 2017 أمام روحاني. كما أن المرشد كان يتطلع لرؤية رئيسي في عهدة ثانية في الرئاسة الإيرانية خلال انتخابات العام المقبل لولا إرادة القدر.
وربما كان المرشد الأعلى يحضره لأدوار مستقبلية غير محددة المعالم، مما دفع البعض للاعتقاد أن رئيسي كان مرشحاً لخلافته، وهو أمر قائم على تخمينات غير دقيقة، فبالنظر إلى طبيعة رئيسي وجاهزيته للقيام بأي عمل لإرضاء الولي الفقيه، وتاريخه شاهد على ذلك، فربما أن المرشد كان يرى فيه سنداً لمجتبى في عمليه الخلافة الصعبة والتي تُطبخ في رأس المرشد، وستشكل سابقة في حال إخراجها إلى النور، لظاهرة التوريث في الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي قامت على فكرة الدكتاتورية الجماعية للملالي.
من خلال تتبع طبيعة العلاقة بين المرشد ورئيسي لا يجد المرء في خطابات المرشد أي تقييم وتقدير للفكر اللاهوتي، أو الاستراتيجي، أو الإداري، أو مكانة استثنائية لرئيسي، فقد كان رضى المرشد مرده إلى أن الرجل كان طوع بنانه، ولهذا ركزت تعليقاته خلال رسالة التعزية على الشخص الذي رأى فيه "خادماً صادقاً ومخلصاً وذا قيمة"، مضيفاً أن رئيسي "تألم لنكران الجميل والإهانات من بعض المغرضين" ربما في إشارة إلى ماضية الدموي.
وسيكون على المرشد خلال هذه الفترة الوجيزة حتى موعد الانتخابات الرئاسية البحث عن نسخة طبق الأصل من رئيسي من بين غلاة المحافظين، ولو على حساب المصداقية الشعبية للنظام التي تدهورت خلال السنوات، فقد فاز رئيسي في 2021 بنسبة مشاركة أدنى من خمسين في المئة من الناخبين، كما بلغت نسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات البرلمانية لهذا العام انخفاضاً قياسياً آخر بأقل من واحد وأربعين في المئة. إلا أن خامنئي سيكون على استعداد للتضحية بالشكليات الديمقراطية التي لطالما احتفى نظام الملالي بها، من أجل ضمان بقاء المتشددين وإمساكهم الكامل بمفاصل السلطة.
وتكون بذلك قد انتهت لعبة الإصلاحيين والمحافظين التي ظل النظام الإيراني يلعبها مع الغرب بعد أن تكشفت أوراقه، ويبدأ الانتقال إلى صراع داخلي مكشوف بين المحافظين وغلاة المحافظين الذين سيتنافسون على إرضاء مؤسسة المرشد، و"الحرس الثوري"، والمرجعية، وربما يكونون جميعاً على موعد مع تقديم فروض الولاء والطاعة قريباً حينما يحين موعد التوريث، لمجتبى خامنئي الذي لا يمتلك أي صفة قيادية في إيران، والذي فرضت عليه واشنطن عقوبات بتهمة العمل نيابة عن والده مع الحرس والباسيج "لتعزيز طموحات أبيه التوسعية وزعزعة الأمن والاستقرار الإقليميين".
وفي أغسطس (آب) 2022 نال مجتبى رضى المرجعية ونال درجة "آية الله" اللاهوتية التي تؤهله للفوز بمنصب المرشد، كما أنه وخلال سنوات حكم أبيه بنى علاقات راسخة مع الحرس الثوري، بموازاة بناء مؤسسات استثمارية أسرية بمئات المليارات. ويقول المطلعون على تجربة الملالي في إيران إن مجتبى تعلم من درس أحمد الخميني، الذي بقي خارج النظام بعد أن كان رقماً كبيراً زمن أبيه الخميني. بقي أن يجد الخامنئي البديل طبق الأصل لرئيسي، الذي شاءت الأقدار أن يسقط في نهاية مشوار المرشد، وفي لحظة كان النظام فيها أكثر ما يكون بحاجة لخدماته الجليلة "جزاراً" يمهد الطريق بدماء المعارضين لديمومة نظام الملالي، واستمرار مشروعهم التوسعي في المنطقة.