الأربعاء 11 ديسمبر 2024 01:56 مـ 10 جمادى آخر 1446 هـ
المشهد اليمني
Embedded Image
×

لمن تضوي يا صباح بالنور؟

الخميس 22 فبراير 2024 09:40 صـ 13 شعبان 1445 هـ

للبكور في ريفنا اليمني مذاق خاص، فهو يصحو على تغريد البلابل، ومهايد الرعيان، ومهاجل الزراع، تفاصيله آسرة، وإبداع مطلق، مُتجرد من أفون المادية، ومُنغصات الحياة، ومصحوب باستقبال مُتجدد لحضن الطبيعة الآسر، ومتبوع بتأملات محدق، وإطراق يملي على الروح لحظات الانتماء لمنشأ الخليقة الأول.
تستمد معظم مناطقنا الريفية حيويتها من المياه المتدفقة من الأودية، ومن غيوم السماء المتجددة، لذا فالإخضرار سمة دائمة فيها، وفي مُعظم فصول العام.
لا أروع من ذلك التناسق والتناغم الناعم بين الوريقات الخضراء، وحركة الصباح الدؤوبة، والفنان الكبير أيوب طارش عبسي حلق - بفنه العذب - بنا عالياً في فضاء تلك الطبيعة، فصورها أبدع تصوير، وأبرز أجمل مفاتنها في لوحة تسر الناظرين، وتُبهج المُستمعين.
شنّ المطر يا سحابة
فوق خضر الحقول
كان ذلك النداء من كلمات الشاعر عثمان أبو ماهر، وكانت الاستجابة، فلبست الأرض حلتها البديعة، الغيث فوقها يهمي ليروي ظمأها وظمأ نفوس كم وكم تاقت لرؤيته، والاغتسال منه، لتستمد الأرواح التواقة للجمال من ذلك المشهد شيئاً من صفائها المخبوء في تلك الهالة المُنعشة من السكون.
ينتهي ذلك اليوم، ويأتي يوماً آخر، قد يبدأ صباحه بطلٍ خفيف، وإن لم يكن فالأنداء تطرز الأشجار والحشائش والورود، فتتناثر عقوداً لؤلؤية تزيد من ارتواء الأرض، وخصبها.
ومن كلمات الشاعر محمد أحمد منصور أكمل أيوب ذلك المشهد، وغنى:
والصبح محلاه يطلع
من خلال المطر
والجو عرفه زباد
مع استمرار هطول المطر، يتجدد الحب العاطفي، ومُتعة اللقيا في حنايا تلك الطبيعة الساحرة، كما تحلوا مشاهدة الحبيبة تتراقص تحت تلك القطرات المدرارة.
وقد صور الشاعر الكبير عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول) ذلك المشهد أبدع تصوير، ونقل أيوب تلك الصورة بتوزيع موسيقى بديع:
خلي الندى.. خلي الندى
فوقك عليك يهمي
واترك همومك لي
يا خل أنت همي
لتأتي كلمات هذه الأغنية للشاعر حسن الشرفي وتوضح المشهد أكثر:
مطر مطر والظبا بينه
تدور مكنّه
يا ليت وانا سقيف
يا ليتنا خدر بدوي
كلهن يدخلنه
لو ما يروح أمخريف
غنائية (حنين المفارق) للشاعر راشد محمد ثابت - هي الأخرى - صورت ذلك المشهد بدقة متناهية، ومن عدة زوايا، وما على المُستمع إلا أن يطلق لخياله العنان، فيستعيد من خلالها أجمل الصور الطبيعية المخزونة في ذاكرته لمكامن الجمال.
حيث قال:
يا حاملات الشريم
والطل فوق الحشائش
هيا اسبقين الطيور
وغردين بالغباشش
لمين حشيش البكور
واطوين سبول عالمحاجش
ومن ندى الغيم رشين
قليب ولهان عاطش
سحابة الفجر سيري
مع حنين المفارق
رشي فؤاد المتيم
ندى سخي العطر عابق
من مخمل الغيم غطي
لواعجي بالبيارق
بُلي بهطلك قليب
صبابته كالحرائق
أغاني أيوب طارش عن البكور كثيرة، وهي بمجملها إن تتبعنا تفاصيلها عبارة عن سيناريو لفيلم رومانسي ماتع، أبطاله عاشقان، ومحاور الفيلم الأخرى من شخوص ثانوية وديكور وموسيقى تصويرية يوفره الريف بكل مقوماته.
ومن كلمات الشاعر عبدالحميد الشايف غنى أيوب:
يا صباح الرضا
على مشارف بلادي
الشيوخ والشباب
حتى الذي في المزابي
ومن كلمات الشاعر أحمد الجابري غنى أيضاً:
يا صبايا.. يا صبايا
فوق بير الماء
والدنيا غبش
من يُسقي بالهوى
قلبي ويروي لي العطش
غنائية (بكّر غبش) - من كلمات الشاعر الفضول - هي الأخرى صورت مُعظم مشاهد الفيلم، جسدت كلماتها الرنانة أدق التفاصيل، وأبهجها، فمن حضن الطبيعة ولد الحب، وبها ربا ونما، حتى وصل إلى القمة.
بكر غبش بالطل والرشاشي
بكرّ بكور قبل الطيور ماشي
حالي وسط ململم الحواشي
أخضر من الله لا مطر ولا شي
بكر وعاد الطير وسط الاعشاش
والفجر طالع بالشعاع رشاش
على الروابي تحت ظل الاشجار
فوق المروج الخضر بين الازهار
عند المراعي في ضفاف الانهار
ربا الهوى وشب في دمه نار
تستمر الحكاية مع استمرار جريان الماء الذي ينساب في الأودية كما تنساب الروح في الجسد، وانسكاب ضوء الشمس على الأشجار الوارفة الظلال، فيما قطر الندى يسيل رقراقاً على أوراقها، ليقبل وجه التراب بهدوء، فتكون وجبة الحبيب الأولى.
ومن كلمات الفضول غنى - أيضاً - أيوب:
واصطبح بك وفجري
قد بدأ يستدير
في السماء حيث يذري
من نداه الغزير
وكان التشبيه الأروع:
أنت فجري الكبير
وكما ضم اللقاء حب العاشقين، وقلبيهما، فإن خامسهما كان الصباح، الذي أعطى للقاء حلاوته، ومده بمقومات الجمال الكامنة فيه، مما عزز من مكانة الحب الذي قبلت طريقة الرياح، وطمست انداء ورده آثار المواجع والجراح، إلا أنَّه ـ أي الحب ـ لم يرتو، وإن كانت الطبيعة من حوله قد ارتوت سقيا، وداخت شراب.
وكم كان صوت أيوب شجياً حين غنى من كلمات الشاعر الفضول:
وانا ومحبوبي وقلبينا وخامسنا الصباح
نمشي طريقك لِتُقَبِّل خطونا فيها الرياح
نذري ندى وردك بآثار المواجع والجراح
يا حب ما علّمت قلبينا سوى علم السماح
وغنى من كلمات الشاعر نفسه:
أقاسم الطير في الأعشاش
ضوء البكور
واشرب كؤوسي من الاصباح
إشعاع نور
والف بالأنداء روحي
وكم قد نمت في حضن الغمام
إنما
مكانني ظمآن
والحب لا يرويه ماء السماء
والشوق لا يطفيه شنان ماء
مع افتراق افترضه المشهد الأخير، يتذكر الحبيب تلك اللقاءات، والشوق ـ طبعاً ـ للحبيبة والوطن يكاد يعصف به، ولسان حاله - ومن كلمات الفضول - يقول:
لا شيء في روحي سوى اشتياقي
للنهر للرعيان للسواقي
شاعود للخلان والأحبة
شاعود يكفيني شجن وغربة
شاعود للأشجار والعصافير
مُلونات الريش والمناقير
وللحمام البيض والشحارير
وللغواني السائمات والبير
راجع لشمس الصبح والمغارب
راجع لبرد الظل في الشواجب
أمام تلك الحالة المؤلمة من التذكر والهيام، فرض جمال الريف نفسه وبقوة حتى آخر لحظة من مُجريات فيلم البكور (الفجر الكبير) الذي تخيلناه، ونثرنا صوره البديعة على صوت أيوب.
غنائية (مهلنيش) من كلمات الشاعر الفضول - أيضاً - فرضت نفسها كنهاية ارتضيتها لهذا الفيلم، وعلى وجه الخصوص هذا التساؤل:
لمن تضوي يا صباح بالنور
لمن تغني يا حمائم الدور
لمن لمن نسيماتي ياحور
وتقطفين زهر الخزام ممطور
وأنا من الدنيا قليبي مهجور
مهلنيش