الإثنين 9 ديسمبر 2024 10:43 مـ 8 جمادى آخر 1446 هـ
االمشهد اليمني
Embedded Image
×

دراسة : تداعيات التصعيد الاقتصادي في اليمن والسيناريوهات المستقبلية

الخميس 13 يونيو 2024 07:54 صـ 7 ذو الحجة 1445 هـ

مقدمة:

تضافرت مجموعة مِن العوامل والأحداث، المحلِّية والدولية معًا، لتشكِّل قاعدة مهمَّة انطلق مِنها البنك المركزي اليمني لاتِّخاذ مجموعة مِن القرارات المهمَّة والحاسمة، والمتعلِّقة بالقطاع المالي والمصرفي. ولعلَّ أهمَّ تلك العوامل هو استمرار الحوثيين في اتِّخاذ إجراءات جديدة استهدفت مالية الحكومة الشرعية، المعترف بها دوليًّا، والقطاع المالي والمصرفي أيضًا، وبشكل شبه مستمر، خاصَّة بعد توقيع "اتِّفاق الهدنة"، في 2 أبريل 2022م، والتي توَّجها الحوثيون بإصدار عملة معدنية مِن فئة (100) ريال يمني، وطرحها للتداول ابتداء مِن 31 مارس 2024م . هذا بالإضافة إلى بعض العوامل الجيوسياسية والأمنية، كقرار تصنيف الحوثيين "جماعة إرهابية" محلِّيًّا، في أكتوبر 2022م ، وتصنيفها كذلك مِن قبل الولايات المتَّحدة الأمريكية "جماعة إرهابية"، عقب أحداث البحر الأحمر، منتصف فبراير 2024م، بعد أن تمَّ شطبها مِن لائحة الإرهاب مِن قِبل إدارة الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، في فبراير 2021م.

تحاول هذه الورقة تقديم صورة حول طبيعة القرارات التي اتَّخذها البنك المركزي اليمني، والقرارات التي أصدرها الحوثيُّون، ودراسة العوامل التي أدَّت إلى التصعيد في الملفِّ الاقتصادي، والمالي على وجه الخصوص، واستشراف المسارات المستقبلية المحتملة وأثرها على الوضع الاقتصادي إجمالًا.

الطريق نحو الصدام المالي والنقدي:

لعبت القضايا الاقتصادية دورًا محوريًّا في النزاع اليمني، فقد استغلَّت جماعة الحوثي قرار الحكومة الشرعية بتطبيق الإصلاحات الاقتصادية ورفع الدعم عن المشتقَّات النفطية للتغطية على الانقلاب الذي نفَّذوه نهاية عام 2014م، وتمكَّنوا عبره مِن بسط سيطرتهم على مؤسَّسات الدولة، وجني الموارد الاقتصادية بدلًا عن الحكومة. فقد قام الحوثيون بحشد الآلاف مِن مقاتليهم بزعم التظاهر والدعوة إلى إلغاء رفع الدعم عن المشتقَّات النفطية وإسقاط الحكومة ، قبيل اجتياحهم للعاصمة ومِن ثمَّ سيطرتهم بالقوَّة على أجزاء واسعة مِن البلاد.

بقي البنك المركزي يدير الملفَّ المالي والنقدي مِن صنعاء، برئاسة المحافظ محمَّد عوض بن همام، في ظلِّ هدنة اقتصادية تقضي بتدفُّق الموارد إلى البنك المركزي، مع التزام الأخير بدفع مرتَّبات الموظَّفين في كافَّة محافظات الجمهورية، غير أنَّ الحكومة الشرعية اتَّهمت الحوثيين بالسيطرة على الموارد المالية وإنفاقها على عمليَّاتها العسكرية، بواقع (100) مليون دولار شهريًّا وفقًا لتصريحات حكومية؛ كما اتَّهمتهم بالتفريط بالاحتياطيات النقدية، لتقرِّر الحكومة الشرعية في نهاية المطاف -في أغسطس 2016م- وقف التعامل مع البنك المركزي في صنعاء، وعدم توريد الإيرادات المالية إليه . وكان البنك المركزي قد أعلن -في نفس الشهر- عن توقيف دفع المرتَّبات لموظَّفي القطاع العام بسبب نقص السيولة، خاصَّة مع توقُّف الصادرات النفطية، وتدهور الناتج الاقتصادي. حينها بدأ سعر الريال اليمني بالتراجع أمام الدولار، ورفضت الحكومة طلب البنك طباعة النقود .

في 18سبتمبر 2016م، أصدر الرئيس السابق، عبدربِّه منصور هادي، قرارًا جمهوريًّا قضى بإعادة تشكيل مجلس إدارة البنك المركزي، ونقل مقرِّه الرئيس ومركز عمليَّاته إلى العاصمة المؤقَّتة عدن ، وهو القرار الذي وصفه الحوثيُّون بأنَّه قرار أمريكي، ودعا زعيم الجماعة المواطنين إلى التبرُّع لدعم البنك المركزي في صنعاء . وواجه البنك مشاكل تقنية وفنِّية عقب قرار النقل، خاصَّة خلال الفترة (2018م- 2019م)، نتيجة تركُّز كوادره البشرية في صنعاء، وكذا الإمكانات التقنيَّة، وخاصَّة في قطاع الرقابة على البنوك، بالإضافة إلى المشاكل الناجمة عن تضارب الصلاحيَّات بين الجهات الحكومية الأخرى.

هذه الاشكالات أثَّرت على طريقة إدارة البنك المركزي للقطاع المالي، الأمر الذي أدَّى إلى إعادة تشكيل مجلس رئاسة البنك لأكثر مِن مرَّة، وظهور مشاكل متعلِّقة بطريقة إدارة البنك للوديعة السعودية، ما قاد إلى عرقلة خطوات الإصلاح الاقتصادي ومواجهة مشكلة انقسام العملة وتدهور قيمة الريال.

تمكَّن البنك المركزي مِن تجاوز العراقيل والمشاكل بالتدرُّج، وبقيت المشكلة المتعلِّقة بضعف الايرادات الحكومية، ولجوء الحكومة إلى السحب على المكشوف -الاستدانة مِن البنك المركزي- قائمة، وتمثِّل إحدى أكبر العوائق أمام الاستقرار الاقتصادي، والتي ترتبط بدورها ارتباطًا وثيقًا بسيطرة الحوثيين على الموارد، وتحصيلها في مناطق سيطرتهم، واستهدافهم لمصادر الإيرادات الحكومية مؤخَّرًا.

كانت طباعة الأوراق النقدية واحدة مِن أبرز القرارات التي اتَّخذها البنك لحلِّ مشكلة السيولة، حيث قام بطباعة (600) مليار ريال يمني ابتداءً ؛ علمًا أنَّ السيولة المحلِّية بلغت (3,106) مليار ريال يمني عام 2014م ، وبلغت السيولة المحلِّية (3.922) مليار ريال يمني عام 2020م . ومع استمرار الحكومة الشرعية في الاستدانة مِن البنك المركزي أخذت قيمة الريال في التدهور بشكل أكبر، خاصَّة أنَّ جزءًا كبيرًا مِن موارد الحكومة يذهب للحوثيين. وقامت الحكومة الشرعية بدفع المرتَّبات والأجور بالنقود المصدَّرة حديثًا، بما فيها مرتَّبات بعض الجهات على مستوى الجمهورية. وفي ديسمبر 2019م، أصدر الحوثيون عبر فرع البنك المركزي في صنعاء (والذي يسيطرون عليه) قرارًا قضى بحظر التعامل بالنقود المصدَّرة حديثًا، وقاموا بسحبها مِن السوق، وأقرُّوا استخدام النقود التالفة المتوفِّرة لديهم مبرِّرين ذلك بأنَّ الحكومة الشرعية تغرق السوق بالأوراق النقدية الجديدة، وتساهم في تدهور سعر صرف الريال . وأعلن الحوثيُّون -حينها- عن تدشين الريال الإلكتروني للمدفوعات، وهو القرار الذي رفضه البنك المركزي في عدن، وحذَّر البنوك وشركات الصرافة مِن التعامل به . وكذلك أعلن الحوثيُّون عن نظام القسائم للحصول على المواد العينية. وفشل الحوثيُّون في تطبيق كلا القرارين، أو حلِّ مشكلة نقص السيولة .

أدَّى حظر تداول الأوراق النقدية الجديدة إلى ظهور فوارق في سعر الصرف بين مناطق سيطرة الحكومة الشرعية ومناطق سيطرة الحوثيِّين، وتكاليف إضافية على الحوالات المالية. ورغم محاولة البنك المركزي في عدن سحب جزءٍ مِن العملة المصدَّرة عبر استخدام الودائع التي قدَّمتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتَّحدة إلَّا أنَّ سعر صرف الريال أمام الدولار واصل تراجعه باطِّراد، متأثِّرًا بدرجة رئيسة بالعجز في الموازنة العامَّة للدولة.

وفي أكتوبر 2020م، حاول البنك المركزي مواجهة فوارق السعر عن طريق ضخِّ العملة المحلِّية فئة الألف ريال، ذات الحجم الكبير، إلى السوق، وعلى مستوى الجمهورية ، إلَّا أنَّ القرار لم يؤثِّر كثيرًا على حجم الفوارق. وأصدر الحوثيُّون قرارات قضت بمنع التعامل مع البنوك المرخَّصة مِن البنك المركزي في عدن، والتي لم تحصل على ترخيص مِنهم، في ديسمبر 2022م، كما أصدروا قرارات بمنع التجَّار مِن التعامل مع مزادات العملة الأجنبية التي ينظِّمها البنك المركزي للاستيراد إلى مناطق سيطرة الحوثيِّين، وأن تكون المشاركة عبر فروع البنك المرخَّصة مِن قبلهم للاستيراد لمناطق سيطرة الحكومة، كما قاموا بتوجيه المنظَّمات الدولية لعدم التعامل مع البنوك غير المرخَّصة مِن قبلهم .

وعلى ذات الصعيد، أقرَّ البنك المركزي في عدن البدء بإجراءات تأسيس شبكة حوالات موحَّدة تحلُّ محلَّ شبكات التحويلات الخاصَّة، وتخضع لإشراف البنك المركزي ، وجرى إشهار الاجتماع التأسيسي للشبكة (UNmoney) باعتبارها شركة مساهمة يمنية في أكتوبر 2022م ، وأصدر البنك المركزي تعميمًا قضى بضرورة الربط والتسجيل في الشبكة في يناير 2023م، ليصدر البنك في صنعاء قرارًا يقضي بمنع التسجيل أو الربط في الشبكة في نفس الشهر، وكذلك أصدر قرارات قضت بمنع التعامل مع البنوك المرخَّصة مِن البنك المركزي في عدن، والتي لم تحصل على ترخيص مِنه، وذلك في ديسمبر 2022م، وقرارات بمنع التجَّار مِن التعامل مع مزادات العملة الأجنبية التي ينظِّمها البنك المركزي للاستيراد إلى مناطق سيطرة الحوثيين، وأن تكون المشاركة عبر فروع البنك المرخَّصة مِن قبلهم للاستيراد لمناطق سيطرة الحكومة، كما قاموا بتوجيه المنظَّمات الدولية بعدم التعامل مع البنوك غير المرخَّصة مِن قبلهم .

وعاد التصعيد حول شبكة الحوالات الموحَّدة مجدَّدًا في فبراير 2024م، حيث أصدر البنك المركزي تعميمًا بضرورة ربط شركات الصرافة بالشبكة الموحَّدة وإجراء الحوالات الداخلية عبر الشبكة، وبالطبع فقد رفض الحوثيُّون القرار، ليدخل التصعيد مرحلة جديدة بإصدار البنك قرارًا بإيقاف مجموعة مِن البنوك نظير مخالفتها لتعليمات البنك المركزي والعمل بتوجيهات الحوثيِّين بوقف التعامل مع شركات الصرافة، حيث أصدر الحوثيُّون قرارًا بوقف التعامل مع شركتي صرافة تعملان في مناطق الحكومة الشرعية وتتبع قيادات في الشبكة الموحَّدة للأموال، ثمَّ تراجع الحوثيُّون عن قرار وقف التعامل مع الشركتين ، وتراجع البنك المركزي عن قرار ايقاف التعامل مع البنوك وأعلن عن التزام البنوك بالتعليمات . ورغم تداول أنباء عن وجود تفاهمات مشتركة نتيجة وساطات إلَّا أنَّه لم يصدر تصريح رسمي بذلك، ونفى البنك وجود أيَّ صفقة أو وساطات .

وكان الحوثيُّون قد أصدروا ما سُمِّي بقانون "تحريم المعاملات الربوية"، والذي أدَّى إلى إرباك القطاع البنكي والتلاعب بحقوق المودعين وأرباح البنوك، ويُهدِّد مراكزها المالية ، وبلغت ذروة القرارات بإعلان الحوثيين عن سكِّ عملة معدنية مِن فئة (100) ريال نهاية مارس 2024م، ورفض البنك المركزي قرار الحوثيين، واعتبر العملة المصدَّرة مزوَّرة وغير قانونية، وأنَّ سكَّ العملة يمثِّل تطوُّرًا خطيرًا وغير مقبول .

وفي مطلع أبريل 2024م، أصدر البنك المركزي قرارًا بنقل مراكز البنوك الرئيسة إلى العاصمة عدن، وحدَّد مهلة قدرها شهران مِن أجل إنجاز ذلك ، وبعد انقضاء المهلة المذكورة أصدر البنك المركزي قرارًا قضى بوقف التعامل مع ستَّة بنوك تعدُّ أبرز البنوك العاملة على مستوى الجمهورية، وهي: بنك التضامن، بنك اليمن والكويت، مصرف اليمن والبحرين الشامل، بنك الأمل للتمويل الأصغر، بنك الكريمي للتمويل الأصغر الإسلامي، بنك اليمن الدولي؛ مع السماح للبنوك بمواصلة تقديم خدماتها للعملاء ، دون أن يشر البنك إلى بقيَّة البنوك وهل تمَّ توقيع خارطة عمل لتنفيذ قرارات البنك المركزي معها أم لا، ومِنها مثلًا: بنك الإنشاء والتعمير، والبنك التجاري اليمني.

كما أصدر البنك المركزي إعلانًا للمواطنين والمؤسَّسات المالية لاستبدال الأوراق النقدية المصدَّرة قبل عام 2016م، مِن كافَّة الفئات، ومنح لأجل تنفيذ ذلك مهلة قدَّرها بشهرين . وأعلن الحوثيُّون عن وقف التعامل مع (13) بنكًا تعمل في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، وحظروا على الأفراد والمؤسَّسات التعامل معها كردِّ فعل على قرار البنك المركزي ، وشمل القرار بنكين حكوميِّين، هما البنك الأهلي اليمني وبنك التسليف التعاوني الزراعي، ومجموعة مِن البنوك الناشئة، وهي: بنك القطيبي الإسلامي للتمويل الأصغر، بنك البسيري للتمويل الأصغر، بنك عدن الإسلامي للتمويل الأصغر، بنك عدن الأوَّل الإسلامي، بنك الشمول للتمويل الأصغر الإسلامي، بنك السلام كابيتال للتمويل الأصغر الإسلامي، بنك تمكين للتمويل الأصغر، بنك الإنماء للتمويل الأصغر، بنك الشرق اليمني للتمويل الأصغر الإسلامي، بنك حضرموت التجاري، بنك بن دول للتمويل الأصغر الإسلامي. كما أعلن الحوثيُّون عن قرار استبدال الأوراق النقدية الجديدة بالأوراق القديمة مع دفع فارق التحويل بينهما .

وفي 23 مايو 2024م، أصدر البنك المركزي قرارًا قضى بحظر مزاولة نشاط الحوالات الخارجية إلَّا مِن قبل البنوك وشركات الصرافة المؤهَّلة، والتي يجب أن تحصل على وثيقة عدم ممانعة صادرة مِنه، ويُلزم القرار الشركات والبنوك بتسليم الحوالات بعملة الإرسال ما لم يطلب المستفيد خلاف ذلك .

وتجدر الإشارة إلى تداخل وتشابك القرارات الصادرة مِن البنك المركزي بالقرارات التي تتَّخذها الحكومة شرعية والهادفة لإعادة تحصيل الموارد وتجفيف منابع تمويل الحوثيين، مثل قرار مجلس الوزراء رقم (75) لعام 2018م، والذي يقضي بتنظيم عملية الاستيراد، والقرارات الصادرة حديثًا والمتعلِّقة بنقل المراكز الرئيسة لشركات الاتِّصالات إلى عدن ، وغيرها مِن الإجراءات؛ وبالمقابل اتَّخذ الحوثيُّون عدَّة قرارات وإجراءات ذات آثار اقتصادية كبيرة على مالية الحكومة ، عزَّزوا مِن خلالها سيطرتهم على الموارد المالية. وسنكتفي هنا بتتبُّع الإجراءات على الصعيد النقدي والبنكي.

حيثيات التصعيد والمواقف المحلية والدولية:

كان قرار الحوثيِّين بسكِّ العملة المعدنية مِن فئة (100) ريال يمني الشرارة التي أشعلت فتيل التصعيد الأخير، خاصَّة بعد انتهاء أزمة توقيف البنوك بسبب الشبكة الموحَّدة. وقد أثار القرار ردَّة فعل حاسمة مِن قبل البنك المركزي في عدن، تمثَّل بإعلان قرار نقل البنوك واستبدال الأوراق النقدية القديمة كما سبق إيضاحه. وقد أدانت سفارات الولايات المتَّحدة الأمريكية والاتِّحاد الأوربِّي وبريطانيا وفرنسا سكَّ العملة باعتبارها أمرًا يعمِّق تقسيم الاقتصاد اليمني، ويتعارض مع جهود الحكومة الشرعية في مكافحة الإرهاب . وحظيت إجراءات وقرارات البنك المركزي بالتأييد الرسمي مِن قبل مجلس القيادة الرئاسي ، إذ اعتبرها إجراءات مهمَّة للقضاء على التشوُّهات النقدية ومواجهة التضخُّم وتعزيز موقف العملة الوطنية وحماية أموال المودعين.

ويرى البنك المركزي أنَّ حلَّ مشكلة السيولة يتمثَّل في السماح بتداول الأوراق النقدية القانونية التي أصدرها بدلًا عن سكِّ عملة مزيَّفة، وكان هذا هو المنطلق لقرار سحب الأوراق النقدية القديمة، كما أنَّ تصنيف جماعة الحوثيين "جماعة إرهابية" مثَّل بدوره قاعدة انطلاق مهمَّة للبنك لاتِّخاذ قرار نقل المراكز الرئيسة للبنوك إلى العاصمة عدن، فنقل مراكز العمليَّات يمكِّن البنك مِن مراقبة جميع عمليَّات البنوك على مستوى البلاد قاطبة، ويحدُّ مِن ضغوط الحوثيِّين ونفوذهم على البنوك، وهذه الإجراءات تعدُّ مِن صميم عمل البنك واختصاصاته.

وقد أثارت القرارات موجة مِن الجدل وردود الفعل المختلفة، حيث اتَّخذ الحوثيُّون قرارات مضادَّة، غير أنَّها لم تكن جديدة كلِّيًّا، فكما ذكرنا سابقًا أوقفت السلطات النقدية الحوثية بالفعل التعامل مع مجموعة مِن البنوك، ووصفتها بغير المرخَّصة، وسبق أن حظرت تداول الأوراق النقدية الجديدة. ولم تكن القرارات الصادرة عن الحوثيِّين ذات صدى كبير. ويميل الحوثيُّون إلى اتِّهام المملكة العربية السعودية والولايات المتَّحدة الأمريكية بالوقوف وراء هذه القرارات ، بسبب موقفهم مِن حرب غزَّة؛ وهي اتِّهامات لطالما كرَّرها الحوثيُّون خلال السنوات الماضية لكنَّهم يحاولون حاليًّا استخدام الحرب على غزَّة مبرِّرًا لمواقفهم ومهاجمة الخطوات التي يُنفِّذها البنك المركزي والحكومة الشرعية. بيد أنَّه يمكن دحض تلك الادِّعاءات بتتبُّع مسارات اتِّخاذ القرارات كما رأينا في القسم السابق مِن هذه الدراسة، والذي نستخلص مِنه غياب الارتباط المباشر بين الحرب الإسرائيلية على غزة وموقف الحوثيِّين مِنها وبين القرارات الأخيرة للبنك المركزي. ومع ذلك لا يمكن أن ننفي وجود تغيُّر في المزاج الدولي تجاه الحوثيِّين مؤخَّرًا على عكس السنوات السابقة. وقد صرَّح محافظ البنك المركزي بأنَّ الضغوط الدولية منعت اتِّخاذ قرارات حاسمة تجاه الحوثيين ؛ وعلى سبيل المثال اتَّهمت الحكومة الحوثيين سابقًا بالاستيلاء على نحو (58) مليون دولار مِن فرع البنك في الحديدة، والتي تمَّ تحصيلها مِن رسوم استيراد المشتقَّات النفطية وفقًا لـ"اتِّفاق استكهولم"، لغرض صرف مرتَّبات الموظَّفين المدنيِّين، ولم يتَّخذ المجتمع الدولي أيَّ ردِّ فعل تجاه ذلك .

ورغم اتِّهام الحوثيِّين للسعودية بالوقوف وراء قرارات البنك المركزي إلَّا أنَّهم لم يعلنوا عن تعليق مشاورات السلام الجارية معها، وكذلك لم يصدر بيان واضح مِن السعودية لتأييد خطوات الحكومة الشرعية الاقتصادية الأخيرة، بل أكَّد وزير الدفاع السعودي على مساعي السلام وضرورة إحراز تقدُّم بشأن خارطة الطريق لإنهاء الأزمة في اليمن أثناء لقائه برئيس مجلس القيادة، د. رشاد العليمي، مطلع يونيو 2024م .

وبالعودة إلى المستوى المحلِّي، أثار قرار البنك المركزي حول تشغيل الشبكة الموحَّدة غضب بعض شركات ومؤسَّسات الصرافة جنوب البلاد؛ فقد أصدرت نقابة الصرَّافين الجنوبيِّين بيانًا أعلنت فيه دعمها لقرارات البنك المركزي غير أنَّها اعترضت على الشبكة الموحَّدة للأموال، وادَّعت بأنَّها مخترقة مِن قبل الحوثيِّين، وأنَّ وجود شبكة واحدة غير كافية لإنجاز التحويلات الداخلية اليومية، وطالبت بتأسيس شبكة أخرى، وإشراك المزيد مِن شركات الصرافة فيها . ويبدو أنَّ جوهر البيان هو الاعتراض على توجُّه البنك المركزي إلى اعتماد الشبكة الموحَّدة حصرًا، وبالتالي تضرُّر مصالح أصحاب الشبكات القائمة حاليًّا، والشركات غير المساهمة في الشبكة الموحَّدة. وناشدت جمعيَّة البنوك اليمنية -مقرُّها صنعاء- البنك المركزي للعودة عن قرار نقل المراكز الرئيسة للبنوك إلى مدينة عدن باعتباره يُعقِّد بيئة العمل ويُؤثِّر على استقرار البنوك النسبي -وفقًا للبيان . ومِن جهة أخرى، يثير قرار نقل مراكز البنوك إلى عدن بعض المخاوف نتيجة الوضع الأمني والسياسي في المدينة، حيث لا تسيطر قوَّات وزارة الداخلية اليمنية على المدينة بشكل كامل، ويمتلك "المجلس الانتقالي الجنوبي" -مشارك حاليًّا في الائتلاف الحكومي- قوَّى عسكرية لا تعمل تحت قيادة وزارتي الداخلية والدفاع، ويدعو إلى انفصال جنوب البلاد عن الجمهورية اليمنية. يبد أنَّ زيارة رئيس "المجلس الانتقالي الجنوبي"، عضو مجلس القيادة الرئاسي، عيدروس الزبيدي، للبنك المركزي هدفت في الأساس إلى بعث رسائل إيجابية في هذا الصدد، حيث أكَّد على دعم مجلس القيادة للبنك المركزي، وأكَّد على توفير الأمن والرعاية للبنوك وشركات الصرافة والمستثمرين في عدن وفي كافَّة المحافظات المحرَّرة .

وأعلن الحوثيُّون عن استبدال الأوراق النقدية في مراكز جمركية استحدثوها مِن قبل على الحدود الشطرية وحدود سيطرتهم، مع دفع فارق التحويل بين العملتين ، ما يؤكِّد على مضيهم في تقسيم الاقتصاد، واعتمادهم على آليَّات الأسواق السوداء بدلًا عن الجهاز المالي والمصرفي.

وبالنسبة للبنوك، فهي تعيش أوضاعًا صعبة بسبب ازدواجية القرارات الصادرة مِن البنك المركزي وتلك الصادرة مِن الحوثيِّين، حيث يمنع الحوثيُّون البنوك بالقوَّة مِن نقل مراكزها إلى عدن، بالإضافة إلى وجود مشاكل فنيَّة تتعلَّق بنقل كوادرها في هذه الإدارات إلى مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، غير أنَّ الأثر على البنوك الستَّة التي تمَّت معاقبتها مِن قبل البنك المركزي تبدو أكبر، بصفتها البنوك التي تعمل على مستوى الجمهورية. وكذلك فإنَّ قرار الحوثيِّين هو الآخر يمثِّل عقوبة على هذه البنوك، لكن بصفة غير مباشرة، حيث يمنعها القرار مِن التعامل مع البنوك التي لا تحمل رخصة عمل مِن السلطات النقدية الحوثية المتمثِّلة بفرع البنك المركزي في صنعاء. وحتَّى الآن لم يصدر أيُّ بيان علني مِن البنوك، إلَّا أنَّ بعض البنوك قامت بنشر إعلانات عن استمرارها في استقبال الحوالات مِن الخارج بعد تداول إشاعات عن توقُّف الحوالات إثر صدور قرار البنك المركزي الخاص بالحوالات الخارجية. مِن جهة أخرى، استجابت شركة "موني جرام" لتوجيهات البنك المركزي، وطلبت مِن وكلائها تقديم بيان موافقة مِن البنك المركزي في عدن كشرط للعمل عبر شبكتها للتحويلات المالية .

ولعدم وجود استطلاعات رأي على الساحة اليمنية لا يمكن معرفة اتِّجاهات الرأي العام إزاء القرارات الأخيرة، غير أنَّ إنهاء الانقسام الاقتصادي يمثِّل مطلبًا شعبيًّا.

التداعيات والسيناريوهات المحتملة:

أثارت قرارات البنك المركزي الكثير مِن الجدل والتوقُّعات حول نتائجها وانعكاساتها، خاصَّة بسبب توقيتها وعدم تراجع البنك أو قبوله التفاوض بشأنها. وسوف نتناول التداعيات والسيناريوهات على شقِّين، الأوَّل فيما يتعلَّق بسحب العملة، والثاني فيما يتعلَّق بنقل إدارات البنوك.

حيث يُتوقَّع أن يصدر البنك المركزي قرارًا يقضي بإلغاء التعامل بالأوراق النقدية الصادرة قبل 2016م، بعد انتهاء المهلة المحدَّدة بشهرين، وبالتالي عدم قبول تداولها أو تخزينها مِن قبل المؤسَّسات المالية المختلفة والأفراد. وبالطبع فإنَّ هذا القرار لا يعني التخلُّص مِن العملة شمالًا، حيث ستبقى مطروحة للتداول استنادًا إلى قوَّة الحوثيين. ومع ذلك يمكن توقُّع اشتداد أزمة السيولة، خاصَّة في حال تشديد الإجراءات على الحوالات الخارجية إلى مناطق سيطرة الحوثيين. كما أنَّ القرار سوف يدفع المواطنين، وبعض رؤوس الأموال، وحتَّى الصرَّافين والبنوك، للتخلُّص مِن جزء مِن العملة القديمة المخزَّنة لديهم، رغم تعرُّض جزء كبير مِنها للتَّلف، وذلك في إطار التحوُّط المستقبلي والتوجُّه نحو شراء الذهب والعملات الأجنبية والأصول غير النقدية، الأمر الذي قد يزيد مِن حجم السيولة ابتداءً، لكنَّه سيؤثِّر على سعر الصرف.

ورغم فشل قرار الحوثيين في احتواء مشكلة السيولة بسكِّ العملة المعدنية إلَّا أنَّ اشتداد أزمة السيولة قد يدفع الحوثيين لاتِّخاذ إجراءات مماثلة لفئات مختلفة، لا سيَّما وأنَّ سكَّ العملة يحقِّق للحوثيين مصدر دخل إضافي وسهل. ولكن ليس بيد الحوثيين الكثير مِن الإجراءات لمواجهة شحَّة العملات الصعبة في حال فرض البنك المزيد مِن القرارات فيما يخصُّ الحوالات الخارجية والبنوك. وعلى الرغم من حظر الحوثيين للأوراق النقدية الجديدة باعتبارها غير مغطَّاة وغير قانونية بالنسبة لهم إلَّا أنَّهم حاولوا في أكثر مِن مرَّة تزييف العملة وتهريبها إلى الداخل لمواجهة أزمة السيولة .

وفيما يخصُّ نقل مراكز البنوك الرئيسة وإدارات عمليَّاتها إلى عدن فإنَّ التوقُّعات تشير إلى أنَّ القرارات المتضادَّة، الصادرة مِن البنك المركزي ومِن سلطات الحوثيين، سوف تقود إلى فصل البنوك بشكل شبه كامل، ويمكن الاستفادة في هذا التحليل مِن المقارنة مع وضع بنك التسليف التعاوني والزراعي (كاك بنك)، والذي صدر قرار بنقل مركزه إلى عدن مطلع عام 2019م ، فقد تمَّ فصل البنك، وفرض الحوثيُّون عقوبات سابقة تمنع التعامل مع البنك في عدن، وخدماته المالية، مثل خدمة "كاك حوالة" في عام 2021م. وكذلك كان البنك ضمن البنوك التي أصدر الحوثيُّون قرارًا بوقف التعامل معها. ورفضت بعض الجهات التعامل مع البنك في عدن مثل الصندوق الاجتماعي للتنمية -مقرُّه صنعاء- في برنامج التحويلات النقدية غير المشروطة لعام 2022م، بسبب العقوبات على البنك، والتزام المموِّل "منظَّمة اليونيسيف" بذلك، فقد تقدَّم البنك لمناقصة في كلٍّ مِن صنعاء وعدن، وهما يمثِّلان كيانًا واحدًا، وهذا يخالف إجراءات المناقصات وفقًا لردِّ الصندوق . ومِنه يمكن استخلاص نجاعة الضغوط الحوثية على المنظَّمات والجهات الدولية بعدم التعامل مع البنوك خلال السنوات السابقة، خاصَّة مع وجود مراكز المنظَّمات الرئيسة في صنعاء، وكذلك تضرُّر البنوك نتيجة الانقسام.

وتختلف الإجراءات إلى حدٍّ ما هذه المرَّة باعتبارها صادرة مِن البنك المركزي، والذي يحظى بدعم محلِّي ودولي، ويمثِّل الاعتراف الدولي بقرارات البنك حجر الزاوية في التأثير على مدى نجاح قرارته. ويوضِّح الجدول التالي السيناريوهات المستقبلية المتوقَّعة:

حيث يشير السيناريو الأوَّل إلى بقاء الأمور كما هي عليه الآن، أي عدم مقدرة البنوك على نقل مراكزها إلى عدن، الأمر الذي قد يُعرِّضها للعزلة، ولعقوبات أكثر صرامة. وهو سيناريو مستبعد إلَّا في حال كان جزءًا مِن تسوية وتفاهمات مشتركة جديدة. والواقع أنَّ أيَّ تفاهمات اقتصادية غالبًا ما تكون مرتبطة بتفاهمات سياسيَّة، أو ضمن التسوية النهائية للنزاع، بحيث يتراجع الحوثيون عن السيطرة بالقوَّة على مؤسَّسات الدولة واستهداف الاقتصاد، والتراجع عن تزوير العملة، وتحصيل الإيرادات لصالحهم. وبكلِّ الأحوال فإنَّ التسوية الشاملة لن تنتج وضعًا مثاليًّا لعودة الدولة ومؤسَّساتها، خاصَّة مع بقاء القوَّة العسكرية بيد الحوثيين، ولكن يمكن أن تُقدِّم نقاط تفاهم مشتركة ومقبولة قائمة على المرجعيَّات.

أمَّا السيناريو الثاني فهو فصل الإدارات الرئيسة للبنوك وأنظمة الرقابة والمحاسبة، مع وجود احتمالية لبقاء المؤسَّسة بشكل واحد صوريًّا، وسوف يشترط البنك المركزي وصول البيانات حول عمليَّات البنوك المشتركة إلى فروعها في مناطق سيطرة الحوثيين أيضًا. ومِن شأن هذا السيناريو أن يقود إلى عزلة للبنوك في صنعاء، وأن تحوَّل أنشطتها وفعاليَّاتها مع العالم الخارجي إلى الإدارة الرئيسة أو الإقليمية في عدن، وسوف تتعرَّض البنوك لخسائر ومشاكل فنِّية ومحاسبية وإدارية نتيجة هذه الخطوة. كما أنَّ الخطوة قد تمثِّل نتيجة واقعية للسياسات المتضادَّة، مع احتمالية تنفيذ الحوثيِّين عقوبات ضدَّ البنوك التي تنفِّذ هذه الخطوة، ولكنَّها في نفس الوقت ستكون عاجزة عن إيجاد بدائل فيما يخصُّ تعامل البنوك مع العالم الخارجي، وبالتالي تحوُّل الجهاز البنكي في مناطق سيطرة الحوثيين إلى نظام شبيه بالنظام البنكي والمصرفي الإيراني المعزول عالميًّا، خاصَّة مع تغيُّر بعض المزاج الدولي في التعامل مع الحوثيين، وقيام الحوثيين مؤخَّرًا بحملة اعتقالات وملاحقة لكوادر المنظَّمات الدولية العاملة مِن صنعاء ، حيث مثَّل وجود المنظَّمات الإغاثية والدولية في صنعاء عامل قوَّة للحوثيِّين في مواجهة بعض قرارات الحكومة سابقًا.

أمَّا السيناريو الثالث فيدور حول إمكانيَّة إنشاء غرفة تنسيق محدودة بين البنك المركزي وفرعه في صنعاء فيما يخصُّ إدارة الرقابة على البنوك، مِن أجل تجاوز مشكلة الرقابة على البيانات وعلى تمويلات مكافحة الإرهاب؛ ولكنَّ هذا السيناريو مستبعد لعدَّة أسباب، مِنها: أنَّ الحوثيِّين جماعة مصنَّفة "جماعة إرهابية"، محلِّيًّا وإقليميًّا، ولا يمكن القبول بوجود ممثِّلين لها في الرقابة على النشاط المصرفي والمالي، وأيضًا لا يمكن الركون لأيِّ تفاهمات مِن هذا الشأن دون وجود تسوية شاملة وحلٍّ للوضع القانوني لفرع صنعاء. ويُمكن أن يقود هذا السيناريو إلى استقالة مجلس إدارة البنك المركزي الحالية.

أمَّا السيناريو الرابع فهو سيناريو نقل مراكز البنوك ومراكز العمليَّات إلى عدن، وهو سيناريو يصطدم بدرجة رئيسة بمواجهة الحوثيِّين للقرار واحتمالية وضع يدهم على أصول البنوك وممتلكاتها، أو التعرُّض لكوادر البنوك وتقييد تحرُّكاتهم، وتحوُّل حالة البنوك إلى حالة شبيهة بحالة "كاك بنك". غير أنَّ الملكية الخاصَّة للبنوك قد تحدث فارقًا في آليَّة التعامل مع الأمر بخلاف "كاك بنك" الحكومي. وسبق للحوثيِّين إغلاق بعض البنوك مؤقَّتًا، والتعدِّي على كوادرها .

أمَّا السيناريو الأخير فيتناول إمكانية استمرار التصعيد في الملفِّ الاقتصادي، خاصَّة في الملفِّ المالي وقطاعي الاتِّصالات وآليَّات الاستيراد، الأمر الذي قد يقود إلى انهيار الهدنة الحالية وعودة التصعيد العسكري. وحتَّى الآن يبدو هذا الخيار مستبعدًا في الأجل القصير، لكنَّه ممكن في الأجل المتوسِّط، وخاصَّة في حال فشلت التفاهمات بين السعودية والحوثيِّين.

وختامًا تجدر الإشارة إلى أنَّه في ظلِّ تعثُّر إمكانيَّات تحقيق التسوية الشاملة ورفض الحوثيين التراجع عن السيطرة على مؤسَّسات الدولة والتراجع عن الانقلاب على المرجعيَّات القانونية والدستورية ونتائج مؤتمر الحوار فإنَّ التصعيد قادم لا محالة وسوف تستخدم الحكومة جميع الأوراق المتاحة لديها لمواجهة الحوثيين، ومِنها بالطبع الملف الاقتصادي الذي استخدمه الحوثيون كثيرًا لتثبيت الانقلاب وخنق الحكومة ماليًّا.

التداعيات على الأداء الاقتصادي للحكومة:

تعرَّضت الحكومة الشرعية لضغوط كبيرة خلال العامين الأخيرين، بسبب الإجراءات التي اتَّخذها الحوثيون فيما يخصُّ القطاع الاقتصادي، فقد حُرِمت مِن عائدات تصدير النفط، وكذلك مِن الضرائب والجمارك على الواردات، بعد تحوُّل نسبة كبيرة مِنها إلى ميناء الحديدة (يسيطر عليه الحوثيُّون على إثر توقيع اتِّفاقية الهدنة في أبريل 2022م)، ولم تقتصر إجراءات الحوثيين على تحصيل موارد الحكومة وتوقيف صادرات النفط وحرمان الحكومة مِنها فحسب، بل امتدَّت إلى القطاع المالي والبنكي، حيث قام الحوثيُّون بحظر تداول الأوراق النقدية في مناطقهم، مساهمين بذلك في تزايد الضغوط التضخُّمية في مناطق الحكومة، وكذلك إيقاف التعامل مع كثير مِن البنوك المرخَّصة مِن البنك المركزي، والسيطرة على جزء كبير مِن العملات الصعبة واستخدامها في المضاربة، مستفيدين مِن حجم عوائد تحويلات المغتربين الكبيرة في مناطقهم والتي يجنون مِنها أرباحًا طائلة بسبب تثبيت سعر صرف وهمي لا يعكس القوَّة الشرائية للدولار، الأمر الذي ساهم في زيادة العجز الحكومي وارتفاع الضغوط التضخُّمية بشكل مستمر، ولذلك كان مِن المهم للحكومة اتِّخاذ إجراءات للردِّ على الحوثيين، وفي عدَّة قطاعات اقتصادية، مِنها القطاع البنكي والمالي الذي يتولَّى البنك المركزي إدارته -خاصَّة مع الاستقرار النسبي في عدن وفي إدارة البنك، ومع إعادة تفعيل للبنك للتعاون مع المؤسَّسات الدولية المختلفة، والبدء في توفير أرضية تشريعية مناسبة لخدمات مالية ومصرفية جديدة، مثل تفعيل نظام رقم الحساب الدولي (IBAN) - وكان مِن المهمِّ أوَّلًا إنهاء حالة الانقسام النقدي والتشوُّهات السعرية في السوق، ومواجهة اجراءات الحوثيين التي تعرقل جميع محاولات البنك في إصلاح العمل المصرفي والإشراف عليه.

غير أنَّ الحكومة لن تتمكَّن مِن تحقيق فوائد مباشرة في الأجل القصير مِن هذه القرارات، بل على العكس قد تزداد الأمور سوءًا في بداية المطاف، ولكن يمكن لهذه القرارات بالتزامن مع القرارات التي تمَّ اتِّخاذها في مجالات اقتصادية أخرى أن تفيد العمل الحكومي في الأجل المتوسِّط والطويل، وأن تحدَّ مِن سيطرة الحوثيين على كثير مِن الموارد، وتجفيف مصادر تمويل عملياتهم العسكرية.

تعاني الحكومة مِن عجز شديد في الموازنة العامَّة للدولة، بسبب تراجع الإيرادات، حيث ارتفع موقف الحكومة المدين مع البنك المركزي إلى (7,642.2) مليار ريال، في مارس 2024م ، ولولا تدخُّل السعودية وتقديمها دعمًا للموازنة العامَّة لوصلت الحكومة إلى حافَّة الإفلاس وعجزت عن صرف مرتَّبات الموظَّفين .

وخلال الصيف تزيد حجم التحدِّيات على الحكومة في قطاع الكهرباء، الذي ما يزال يعتمد بدرجة رئيسة على الطاقة المشتراة، ويعمل بكفاءة متدنِّية للغاية، رغم استحواذه على نحو 30% مِن حجم الإنفاق الحكومي . وفي ظلِّ تعثُّر إعادة الصادرات النفطية فإنَّ الحكومة الشرعية سوف تبقى مهدَّدة وغير قادرة على تلبية تطلُّعات المواطنين والوفاء بالتزاماتها المختلفة، خاصَّة مع صغر حجم القاعدة الضريبية في مناطق سيطرة الحكومة.

ومع تزايد الغضب الشعبي جرَّاء تدهور سعر صرف الريال في مناطق سيطرة الحكومة فإنَّ مواجهة الحوثيين قد تصبح قرارًا مصيريًّا للحكومة الشرعية قبل أن تعصف بها الاحتجاجات، وأن يقود الفشل الاقتصادي إلى فشل مقاومة الانقلاب الحوثي. ولا يمكن التنبُّؤ بالنتيجة النهائية للتصعيد الاقتصادي، وفيما إذا كان سوف يقود إلى تصعيد عسكري مواز أو إلى الضغط على الحوثيين وإجبارهم على التفاوض الجدِّي للتوصُّل إلى تسوية شاملة في البلاد، إلَّا أنَّه بطبيعة الحال كسر لحالة الجمود وحالة اللَّا حرب واللَّا سلم التي تعيشها البلاد في ظلِّ تصاعد الأزمة الإنسانية وازدياد مستويات الفقر.

موضوعات متعلقة