الكتابة في اليمن القديم لماذا سُمي بالمسند؟ (2)
تعني كلمة "مسند" أو "مزند" في العربية الجنوبية الكتابة مطلقا، وقد وردت في مواضع متعددة من الكتابات والنقوش، كما في نص أبرهة: "سطرو ذن مزندن"، وترجمتها: "سطروا هذه الكتابة".
وكلمة "مسند" عند كل من: ابن دُريد، وابن الأثير، وابن سيدِه، ونشوان بن سعيد الحميري، وابن خلدون تعني خط حِمير؛ أما ابن رستة فيستخدم صيغة الجمع "مساند" وتعني لديه: أحجارا كبارا، في مواضع عالية، مكتوب عليها بالكتابة الحميرية الأحداث التي كانت مؤرخة". انظر: د. إبراهيم محمد الصلوي، مساند حميرية في مصادر التراث العربي، مجلة الإكليل، العددان الأول والثاني للسنة الثامنة، 1990م، وزارة الإعلام والثقافة، صنعاء، 1990م، 80.
وللدكتور "إسرائيل ولفنسون" رأي آخر، مخالف لهذا، قد علل ذلك بالقول: ظهور خط المسند اليمني، بتلك الصور التي عليها بكون ذلك من تأثيرات فنون العمارة أساسا على اليمني القديم: "والخط المسند يميل إلى رسم الحروف رسما دقيقا مستقيما على هيئة الأعمدة، فالحروف عندهم على شكل العمارة التي تستند على أعمدة. وعلى العموم فإن لحضارة جنوب بلاد العرب عقلية تنحو نحو الأعمدة في عمارة القصور والمعابد والأسوار والسدود وأبواب المدن. من أجل ذلك يوجد عندهم ميل شديد لإيجاد حروف على هيئة الأعمدة؛ أي أن الحروف كلها عبارة عن خطوط تستند إلى أعمدة، وقد تنبه علماء المسلمين إلى شكل هذه الكتابات، وأطلقوا عليها لفظ المسند؛ لأن حروفها ترسم على هيئة خطوط مستندة إلى أعمدة. تاريخ اللغات السامية، 243
تأثير المسند في الحبشية والبراهمية والأفريقية
ما من إمبراطورية يمتد وجودها إلى خارج حدودها إلا وتنتقل معها ثقافة هذه الإمبراطورية حيث وصلت، وبحكم الامتداد الحضاري اليمني القديم إلى خارج اليمن فقد امتد معه أيضا خط المسند إلى الحبشة أولا، وفقا لما ذهب إليه الدكتور جواد علي؛ فقد عُثر على كتابات بالقلم الحبشي القديم في منطقة "يحا" الحبشية، وهي تمثل ــ كما يقول ــ أقدم نماذج الكتابات الحبشية، وقلمها هو القلم السبئي القديم، وفي أكسوم، وتعود إلى القرن الرابع للميلاد، وكتابات نصرانية كُتبت باللهجة الجعزية، وتعود إلى القرن الخامس للميلاد، وقد استُعملت في هذه الكتابات الجعزية الأصوات مع الحروف، وبذلك اختلفت عن الأبجديات السامية.. ومع ذلك احتفظت بالأشكال الأصلية للحروف العربية الجنوبية، ولم تبتعد عنها كثيرا، ويمكن إدراك أثر المسند في الكتابة الحبشية المستعملة في الوقت الحاضر دون عناء كبير. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 212/8.
ومن القلم المسند أخذ الأحباش قلمهم الذي يكتبون به، نقله إليهم السبئيون الذين هاجروا إلى الحبشة قبل الميلاد، وأقاموا لهم حكومة هناك، وأثروا في الأحباش، فكان من تأثيرهم فيهم هذا القلم الحبشي. نفسه، 215/8.
وذهب كثير من المستشرقين إلى أثر المسند نفسه، أو بالواسطة في عدد من الأقلام الأخرى، منها كتاباتٌ عُثر عليها في أفريقيا، في إحدى للهجات الكوشية أو النوبية، والخط البربري القديم الذي يعود إلى أيام قياصرة روما، والقلم البراهمي؛ حيث نلاحظ شبها كبيرا بين حروف هذا القلم والمسند، ولا يُستبعد أثر المسند فيه؛ لأن العلاقات بين العربية الجنوبية والهند كانت قديمة جدا. نفسه، 213/8.
وقد اشتق من أبجدية المسند الأبجدية البراهيمية، والأبجدية الهندية العصرية؛ أما الأبجدية الحبشية فكانت نفس أبجدية المسند إلا أن بعض حروفها أصبحت الآن تكتب عند الأثيوبيين بطريقة عكسية، وهي " ح ل م ر ش" وكانت السطور عندهم تكتب من اليسار إلى اليمين، بتأثير الخط اللاتيني. ويوجد بين أبجدية المسند والأبجدية اليونانية الحديثة تقارب ظاهر، لاسيما في الحروف التالية: "ب ج ش ق ع ل ن و"، ويُعزى هذا التقارب إلى اتصال اليونانيين بالمعينيين، في تاريخ يعود إلى ما قبل القرن العاشر قبل الميلاد بعلاقة التجارة، ولا يبعد أن الفينيقيين هم الذين قلدوا المعينيين في ذلك. تاريخ اليمن الثقافي، أحمد حسين شرف الدين، جامعة صنعاء، 2004م، 276.
هذا ويُستفادُ من دراسة النقوش التي عُثر عليها في أرجاء متعددة خارج اليمن أنّ ثقافة لغة المسند قد حظيت قديمًا بانتشار واسع، فقد ظهرت نقوش لها في أماكن كثيرة من شبه الجزيرة العربية، وبالأخص في مناطق الجبال والصحراء الشرقية التي تمتد من حضرموت إلى نجران، وفي الجنوب الغربي لشبه الجزيرة العربية كالدادان "العلا"، وبعضها يعود بنا إلى الوقت الذي استوطن المعينيون والسبئيون هذه المنطقة، واتخذوا منها مركزا من مراكز مواصلاتهم البرية، ومناخا لقوافل البخور التي كانت تعبر إلى مصر وغزة، تمهيدا لنقلها بحرا إلى بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، كما تدلنا على ذلك النقوش التي عُثر عليها في الفيوم وبير مينيخ بمصر العليا، ثم في ديلوس وكريت في البحر الأبيض المتوسط، وأقدمها يعود إلى ما قبل القرن السابع عشر قبل الميلاد..". نفسه، 269.
ميزة المسند
للقلم المسند ميزات كبيرة امتاز بها عن الخط العربي، وفقا للدكتور جواد علي، فحروفه منفصلة، وهي بشكل واحد لا يتغير بتغير مكان الحروف من الكلمة، فإذا جاء الحرف في أول الكلمة أو في وسطها أو في آخرها كُتب بشكل واحد، وقد جعلت هذه الخاصية لهذا القلم ميزة أخرى هي ميزة الكتابة به من أي جهة شاء الكاتب أن يبدأ بها، فله أن يكتبَ من اليمين إلى اليسار، وله أن يكتب من اليسار إلى اليمين، وله أن يمزج بين الطريقتين، بأن يكتب على الطريقة الحلزونية، من اليمين إلى اليسار، ثم من اليسار إلى اليمين.. وله أن يكتب من أعلى إلى أسفل، أو العكس، وهكذا. ثم إن حروفه غير متشابهة؛ لذلك لم يعرف المسند الإعجام، ولو كُتب له أن يكون قلم المسلمين ليسّر لنا اليوم وقتا ومالا في موضوع الطباعة به؛ ولكنه أبطأ في الكتابة نوعًا ما من الخط العربي، لشكل حروفه الضخمة بالنسبة إلى الحروف العربية المختزلة، فالخط العربي يمتاز عليه بهذه الناحية فقط؛ أما موضوع الشكل فالمسندُ غيرُ مشكولٍ؛ بل يُكتب بحروفٍ صامتة فقط. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 210/8.
يظهر أن المسند كان القلم الرئيسي في جزيرة العرب قبل الإسلام، وأن جزيرة العرب كانت تكتب به قبل المسيح، وأن أقلاما تفرعت منه قبل المسيح لأسباب غير واضحة، وقد تكون لأشكال الحروف التي تتطلب دقة في الرسم علاقة بذلك، فمال الكتاب إلى ابتكار أشكال مرنة لا تحتاج إلى عناية في الرسم، فاستخدموها في الكتابة لسهولتها، فتولدت منه الكتابات المذكورة. نفسه، 213/8.
وبناء على ما سبق، نستطيع القول أنّ الكتابة اليمنية القديمة كانت شائعة بين الخاصة والعامة، ولم تكن حِكرًا على عِليةِ القوم فقط، كما هو الحال مع بقية الأقوام؛ ذلك أن النقوش المسندية متنوعة وشاملة، نجدها في أعالي الجبال في الأرياف، كما نجدها بين بطون الوديان ومتون الصّحارى، نجدُ الراعي دوّن نشاطه، والصيّاد أرخ لحرفته، كما هو الشأن لدى الناسك في المعبد أو القائد العسكري أو المرأة التي دونت طبيعة عيشها وما ذا تأكل أثناء "الوحام"، والفنان والتاجر والمزارع وحتى باني المنزل. كل هؤلاء كتبوا وأرخوا لأنشطتهم، كما يفعل الناس اليوم. فقد وثقت شمعة بنت ذي مراثد الحميرية طرفا من معيشتها، كما يثبت هذا النقش المسندي: "أنا شمعة بنت ذي مراثد كُنْك إذا وُحُمك أول بانقشم من أرض انهندا بطلة زاهدا"؛ أي: أنا شمعة بنت ذي مراثد، كنتُ إذا وحمتُ أحضر القشم من أرض الهند بطلة طرية".
ونختتمُ حديثنا هنا بما أكده الباحثُ العربي السوري المعروف محمد علي مادون بقوله: " فقد توصلت إلى حقيقة نهائية وحاسمة تقرر انتماء خطنا العربي المعاصر إلى أصوله العربية الجنوبية، فهو متفرعٌ من الخط المسند..". خط الجزم ابن الخط المسند، سابق، 91.
الطغراء المُسندية.. فن قائم بذاته
تعريف الطغراء
حروف متشابكة ومتداخلة بعضها ببعض، بطريقة فنية جمالية، تُرقمُ في أعلى الرسائل والمدونات، وتشتمل عادة على أسماء الحكام وألقابهم الرسمية. وهي نفسها المسمى بالمونوجرام في اللاتينية الحديثة.
ولفظة الطغراء في بعض المعاجم العربية ترد بصيغة "الطرة"، أو "الطغرى"، والتي ظهرت في الخط العربي بأنها شكلٌ فني راقٍ، يُكتب بخط الثلث، على شكل مميز أو خاص، وأن أصلها علامة سلطانية، تُكتب في الأوامر الرسمية على الجانب الأيمن منها، وتُكتبُ على النقودِ الإسلاميّة أو غيرها، ويُذكر فيها اسم السلطان أو لقبه. الطغراء في اليمن القديم دراسة في أشكالها الكتابية ودلالات مضامينها، محمد مسعد الشرعي، رسالة ماجستير، جامعة صنعاء، 2014م، 14.
والطغراءُ عملٌ فني مستقل بذاته، يجيده الفنانون المهَرة من الخطاطين والرسّامين بالممارسة حتى تثبتَ على نمطٍ فني معين، لمدة زمنية، وله مدلوله الخاص الذي يتخذ شكلا ما من الأشكال.
ظهور فن الطغراء
عُرف فنُّ الطغراء لدى كل الأمم تقريبا، لكنها جميعا متأخرة عن أول ظهور لها في الحضارة اليمنية القديمة، ففي الوقت الذي تعود لدى اليونان إلى القرن الرابع قبل الميلاد، نجدها ظهرت في اليمن في القرن الثاني عشر قبل الميلاد؛ حيثُ تم العثور على قطعة فخارية في موقع هجر بن حميد، وادي بيحان أثناء قيام بعثة المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان بين عامي: 1950 و 1951م، بالتنقيب في موقع المدينة؛ أي أن الطغراء اليمنية سبقت الطغراء اليونانية بـ 800 عام..!
ولا شك أنها قد شهدت تطورًا؛ بل تطورات متتالية منذ نشأتها على نمطها الأول في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، حتى استوت على آخر نمط لها.
وقد نُقشت الطغراءُ على واجهات المعابد وأعمدتها، وعلى المذابح والبوابات، والمنحوتات الأخرى التي قدمت للمعابد كهدايا ونذور، والتحف التي وجدت في بعض القصور أيضا، متضمنة أسماء الملوك، أو مَن دونهم من الأقيال والأذواء، وألقابهم الرسمية ونعوتهم. وأيضا بعض الأسماء الدينية ورموزها، لمكانتها في نفوس الناس، وأسماء بعض المناطق المهمة، وبأشكالٍ متنوعةٍ ومتعددة، تحملُ مضمونًا معرفيًا، كما تحمل قيمة جماليّة في نفس الوقت، في صورة تكاملية بين الشكل والمضمون، بعد دمج الحروف مع بعضها البعض، دمجا متناسقا متناغما، فترى في نفس الوقت لوحة جمالية ونصا كتابيا.
وفي عمله الإبداعي الرائع "الطغراء في اليمن القديم دراسة في أشكالها الكتابية ودلالات مضامينها" أتى لنا الباحث في التاريخ القديم محمد مسعد الشرعي بما يزيد عن مئة طغراء تتبعها منذ البدايات الأولى، وحتى نهاية القرن الثالث الميلادي.
وقد تواصل فن الطغراء حتى بلغ أوجه في أواخر عهد الدولة العثمانية، إلى حد اعتبار البعض أن فن الطغراء إبداع عثماني متأخر، فيما هو في الحقيقة إبداع يمني، يعود إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، رقمه أهل اليمن على الصخر، قبل أن يتم رقمه على الورق.
خط المسند.. ذائقة جمالية متفردة
من يتأمل في التفاصيلِ والملامح الدقيقة لخط المسند يكتشف ذائقة فنية فريدة واستثنائية لدى الخطاط اليمني الأول، لا نظير لها في خطوط اللغات الأخرى القديمة، خاصة في المراحل المتأخرة؛ حيث تبدو كثير من النصوص وكأنما صُمّمت بأرقى تقنيات التصميم المعاصر، فما من حرف من حروف المسند إلا ويتخذ شكلا هندسيا وجماليا بديعا، وجميعها متراوحة بين الأشكال الهندسية الدائرية أو المنحنية أو المستقيمة أو المربعة أو المستطيلة أو المثلثة.. إلخ.
إنّ كلّ حرفٍ من حروف المسند يحمل في حد ذاته قيمة جمالية مستقلة، من حيث الشكل الخارجي والاستدارة والانحناء والتناظر والتقابل والتوازي وعلاقته المتناسقة بالحرف المجاور، فثمة تناغم في الموسيقى البصرية بين كل حروفه، كما أن لديه المرونة في الحفاظ على هذه الخاصية الجمالية في حالة تعمد الخطاط تطويل حروفه أو قصرها، أو حتى إدخال بعض اللمسات الفنية الجديدة، فإنها تحتفظ بهذا الجمال في الحالتين معا، دون تأثيرٍ عليها في الذائقة البصرية، لا على مستوى الحرف لوحده، ولا على مستوى اللوحة النصية بكاملها، إلى حد أننا أحيانا إلى جانب قراءتنا للنص المسندي، بما يحمله من معانٍ وإشاراتٍ، نبدو وكأننا أمامَ لوحةٍ فنية مدهشة بتلك التفاصيل الجمالية التي قلما نجدها في أي خط آخر.
وثمة ملاحظة مهمة هنا وهي سهولة التعاطي مع الحرف المسندي الرشيق والمستقل بذاته، والذي لا يستدعي اتصاله بالحرف الذي يليه في أي كلمة، فيتغير ــ من ثم ــ شكل الحرف، نظرًا لارتباطه بحرفٍ آخر يستدعي معه حركة مختلفة عن الحركة السابقة، هذه الحركة بذاتها تستدعي جهدا في معرفتها أولا، ثم في تتبع مَوَاطنها، كما أنه خالٍ من تعقيد بعض الأبنية الصرفية واللغوية، نظرًا لعدم حاجته للتشكيل من حركة أو سكون، إلا قليلا فيما يتعلق بحروف العلة التي تسقط من وسط الكلمة، وبعض القواعد اليسيرة المُستثناة.