جمهرة الزيود؛ أهم إنجاز لثورة سبتمبر
يعتبر المؤيدون لثورة 26 سبتمبر، تحديث اليمن النسبي، وإخراجه من التخلف والعزلة، أنه من أهم إنجازات الثورة. غير أن هذا التحديث النسبي لا يدعو للكثير من الفخر، فالواقع الحضاري لليمن، قبل انهيار الدولة، كان الأكثر تخلفًا من بين جيرانه والدول العربية عمومًا. والأهم من ذلك، أن عملية التحديث ربما كانت ستتم على يد النظام الإمامي بشكل أفضل مما قام به الجمهوريون. فالإمام الذي قامت عليه الثورة (محمد البدر) كانت لديه ميول وأفكار لتطوير اليمن وتحديثها. وكان من المحتمل أن تتم عملية التحديث بشكل أسهل وبتكلفة أقل؛ لأنها كانت ستتم في ظروف مستقرة، ووفق رؤية ينفذها النظام الحاكم، مثلما حدث في الدول الملكية المجاورة.
يضاف إلى ذلك، لم تقم الحكومات الجمهورية بإحداث نقلة نوعية في أسلوب الحكم والإدارة يختلف عن النظام الذي ثارت ضده، فالحكومات الجمهورية، وتحديدًا حكومة علي عبدالله صالح، كانت أشبه بنظام ملكي، إذ لم يكن ينقصه ليصبح نظامًا ملكيًا سوى التاج.
والأسوأ من ذلك، أن الحكومات الجمهورية اتسمت بالضعف والهشاشة وانتشار الفساد الفوضوي، على خلاف النظام الإمامي الذي كان أكثر قوة وسيطرة منها، وكان فساده أكثر انضباطًا، وأقل وضوحًا.
إلى جانب ذلك، كان النظام الإمامي أكثر حرصًا على السيادة والاستقلال من الحكومات الجمهورية التي اتصفت بالتبعية للخارج، والتساهل أمام اختراقاته الكبيرة والواضحة لسيادة الدولة.
واستنادًا إلى ذلك، فقد نصل إلى استنتاج، يردده أنصار النظام الإمامي، وبعض المؤرخين والباحثين من غير اليمنيين، مفاده أن ثورة سبتمبر كانت خطأ تاريخيًا، ولم تحقق أي إنجاز يذكر. غير أن ذلك الاستنتاج، يبقى قاصرًا، ولا ينظر لأهم منجز تحقق من ثورة سبتمبر، والذي سنطلق عليه جمهرة الزيود.
ولتوضيح هذا المنجز نحتاج للغوص قليلًا في التاريخ السياسي/ الثقافي لليمن، والفكر السياسي الإسلامي. فاليمن من بعد الإسلام، مثلها مثل معظم المناطق التي أصبحت جزءًا من الإمبراطورية الإسلامية، حُرمت من أن تتشكل فيها دول مكتملة الأركان، كما كان عليه الحال قبل الإسلام.
فبعد أن استقرت الإمبراطورية الإسلامية بفترة، اخترع حكامها فكرة سياسية خطيرة حصرت الحكم في أسر محددة من "قريش" وفقًا لأحاديث نبوية، وتفسيرات خاصة لبعض الآيات القرآنية. وقد أدت هذه الفكرة إلى منع سكان الإمبراطورية من أن يكونوا حكامًا لها (خلفاء)، أو يشكلوا دولًا مستقلة عن دولة الخلافة، إلا في حال تولى قرشي الحكم فيها.
وكان من حظ اليمن السيئ قدوم يحيى الرسي، الملقب بالهادي، إلى اليمن، في نهاية القرن الثالث الهجري، والذي استطاع أن ينشر في بعض مناطق اليمن عقيدة دينية/ سياسية تضمن له ولذريته، والسلالة التي يدعي الانتماء لها، الحق الحصري والأبدي في الحكم. فبموجب هذه العقيدة، التي سميت بالذهب الزيدي أو الهادوي، فإن المنحدرين الذكور من البطنين (ذرية الحسن والحسين) هم المؤهلون الوحيدون لتولي منصب الإمام. وقد تمكن الرسي وخلفاؤه من جعل هذه العقيدة السياسية ركنًا من أركان الدين. ووفقًا لذلك؛ فإن الغالبية الساحقة من اليمنيين، والذين أطلق عليهم في بعض الفترات اسم القحطانيين، لا يحق لهم أن يكونوا حكامًا، لأن في ذلك مخالفة صريحة للدين.
وعلى الرغم من أن هذه العقيدة قاومها بعض الزعماء السياسيين حين قدوم الرسي، ورفضها بعض المفكرين أمثال أبو محمد الحسن الهمداني، ونشوان بن سعيد الحميري، ومطرف بن شهاب مؤسس فرقة المطرفية، وغيرهم؛ إلا أنها تجذرت في ما يعرف بالمنطقة الزيدية، وأصبحت عقيدة سياسية/ دينية متينة.
وبقيام ثورة 26 سبتمبر وإعلان الجمهورية، حدث اختراق جوهري لتلك العقيدة في المنطقة الزيدية؛ فلأول مرة منذ أكثر من ألف وثلاثمائة عام، يعتقد القحطاني بأن له الحق في أن يكون حاكمًا، وليس محكومًا من سلالة "البطنين".
وعلى إثر تلك الثورة؛ انقسمت المنطقة الزيدية إلى جماعتين: زيود جمهوريين، وزيود ملكيين. وقد اشتمل الزيود الجمهوريون على قحطانيين، وعدنانيين (من يدعون بأنهم من السلالة الهاشمية) وزيود إماميين (ملكيين) من عدنانيين وقحطانيين. وقد تزعم القحطانيون الزيود الجمهوريين، فيما تزعم العدنانيون الزيود الإماميين.
ومن بعد ثورة 26 سبتمبر تزايد عدد الزيود الجمهوريين بشكل مطرد، وتناقص عدد الزيود الإماميين، وكانوا على وشك الاندثار حتى قيام الحركة الحوثية، وسيطرتها اللاحقة على معظم المناطق الشمالية.
ليس هذا وحسب، بل إن المذهب الزيدي نفسه، كان على وشك الانقراض، قبل قيام الحوثية. فخلال فترة ما بعد الثورة عملت أطراف كثيرة، منها: الحكومات الجمهورية، وجماعة الإخوان المسلمين، والحركات السلفية، والحكومة السعودية، بشكل منهجي، على تسنين المنطقة الزيدية، وقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد. ويمكن التخمين بأن أكثر من 90% من سكان هذه المنطقة قد تحولوا إلى المذاهب السنية قبل سيطرة الحوثي على صنعاء في سبتمبر 2014.
وحدوث ذلك كان يعني أن الزيود الجمهوريين لم يعودوا زيودًا بالمعنى المذهبي، كما أنهم لم يعودوا يصفون أنفسهم بالزيود إلا في ما ندر، فهذا الوصف يتم استخدامه في الغالب على شكل ازدراء من قبل بعض سكان المناطق الأخرى داخل اليمن، وفي السعودية، لأكثر من سبب، ليس هنا المجال لذكره.
وبما أن الفكر الجمهوري، الذي أدى إلى "جمهرة الزيود"، هو أهم منجز لثورة سبتمبر، فإن هذا الفكر هو العدو الأخطر المهدد للحركة الحوثية. فهذه الحركة، وإن لم تعد زيدية المذهب، كونها تعتمد في الحكم على مذهب خاص بها -لدي ورقة بحثية حول هذا الموضوع ستنشر قريبًا- إلا أنها تعتمد في حكمها على الفكرة الجوهرية للمذاهب الشيعية، والتي تحصر الحكم في ما يسمى "آل البيت"، والذي تحدده بمن يسمى "السيد العلم".
والفكر الجمهوري الذي انتشر بين "الزيود الجمهوريين" يتناقض مع تلك الفكرة، ومن ثم؛ فإن استمرار هذا الفكر يُفقد الحركة الحوثية الشرعية الدينية الضرورية لقبول حكمها واستمراره في منطقة الزيود الجمهوريين القحطانيين.
وإذا علمنا أن الزيود الجمهوريين القحطانيين هم الغالبية العظمى من القوة التي يعتمد عليها الحوثيون، كون أكثر هؤلاء من القبائل المحاربة، كما أن عددهم يزيد عن 90% من سكان المنطقة الزيدية؛ فإن من المنطقي أن يُسخر الحوثيون جهودًا جبارة لمسح فكرة الجمهورية من أذهانهم، و"فرمتتها"، إن جاز التعبير، لتعمل كما كانت قبل قيام ثورة سبتمبر.
ولتنفيذ هذه "الفرمتة" يقوم الحوثيون بعملية تلقين واسعة لعقيدتهم، لم تعرفها اليمن من قبل، وتشبه ما قامت به الأنظمة الشيوعية في الصين وكوريا الشمالية وكمبوديا والاتحاد السوفيتي، والنازية والفاشية، وغيرها من النظم الشمولية. إذ نجدهم يستخدمون كل وسائل الدعاية والتأثير الحديثة والقديمة مثل: الدورات الثقافية التي يعقدونها للنخب، والمراكز الصيفية والمناهج الدراسية للأطفال، والدعاية الممنهجة والدائمة عبر كل وسائل الإعلام والمساجد، والتجمعات والحشود التي يقيمونها بشكل شبه يومي في مناطق سيطرتهم.
وإذا حللنا مضمون العقيدة الحوثية سنجدها مركزة على فكرة جوهرية تقوم على رفض فكرة الجمهورية، وإعادة الاعتقاد بأحقية حكم "آل البيت"، ومن ثم حق "السيد العلم" عبدالملك الحوثي بالحكم. ولتغطية هذه الفكرة يقوم الحوثيون بتغليفها بكم هائل من العبارات الإنشائية عن السيادة، ومحاربة العدوان الخارجي، وتحرير فلسطين، ورفعة الإسلام، ومحاربة أمريكا، وغيرها من الشعارات التي تدغدغ عواطف الناس وغرائزهم.
وقد استهدفت حملة التلقين هذه ثلاثة أطراف: الزيود الجمهوريين العدنانيين، والزيود الجمهوريين القحطانيين، واليمنيين السنة الخاضعين لسيطرتهم. وكان لكل طرف منهج تلقين خاص به. فالزيود الجمهوريون العدنانيون وجه لهم خطاب بأنهم كانوا مغفلين وسذجًا حين اعتنقوا الأفكار الجمهورية، لأنهم بذلك حرموا أنفسهم من حق الحكم، وسلموا الحكم لمن لا يستحق، وأصبحوا خدمًا لهم، ومهمشين وأقلية مظلومة في العهد الجمهوري.
ويمكن القول إن الخطاب الحوثي قد نجح في إقناع الكثير من الجمهوريين العدنانيين بعقيدته، بخاصة بعد أن منحهم حصة كبيرة من الثروة والسلطة، وأعاد لهم المكانة الاجتماعية والرمزية، التي فقدوها بعد ثورة سبتمبر. ولهذا وجدنا بعضًا ممن شارك في ثورة سبتمبر وحارب في صفها من "العدنانيين"، قد تخلوا عن الجمهورية، وأصبحوا حوثيين. أما الجيل الثاني والثالث من العدنانيين الجمهوريين، بمن فيهم من ولد وعاش في الدول الغربية، فقد أصبحوا متحمسين للحوثية أكثر بكثير من آبائهم.
ونجاح الحوثي في نزع الفكر الجمهوري من "العدنانيين" له أهمية خاصة، لأن هذه الفئة هي عصب الحوثية ونواتها الصلبة، وبقاء الفكر الجمهورية داخلها يشكل خطرًا كبيرًا على الحوثية.
أما الخطاب الحوثي الموجه للزيود الجمهوريين القحطانيين فإنه مختلف، كما أن نجاحه أكثر صعوبة. ولهذا نجد الحوثي يركز على الأطفال والنشء الجديد، والذين لم يتشربوا بالفكر الجمهوري. إلى جانب ذلك يستخدم الحوثي تكتيكات مختلفة تستجلب التعصبات القبلية والجهوية. وفي هذا الصدد يقوم الحوثيون بتذكير القبائل التي لم تلتحق بركب الجمهورية، وحاربت في صفوف الإمامة، بمواقفهم السابقة. كما أنهم يقومون بتخويفهم من المناطق غير الزيدية، والادعاء بأن الحوثيين هم من يدافع عنهم، ويمثل مصالحهم. أما خطاب الحوثيين في المناطق غير الزيدية، فإنه يركز على القضايا الوطنية والقومية والدينية، لكسب ولائها، أو عدم معارضتها لهم في أحسن الأحوال.
وكل جهود الحوثيين في نزع الفكر الجمهوري من أذهان الزيود الجمهوريين تهدف إلى شرعنة حكمه، وقبولهم الطوعي بحكمه، كما حدث مع أسلافهم قبل الثورة، بمعنى آخر يهدف الحوثيون إلى إرجاعهم زيودًا إماميين كما كانوا. وفي حال نجح الحوثي في ذلك؛ فإنه سيدعي بأنه الممثل الشرعي لهذه المنطقة، وأن كل الزيود هم حوثيون.
غير أن هذا العمل ليس سهلًا، فالكثير من الزيود الجمهوريين أصبحوا من الوعي والخبرة إلى الحد الذي يجعلهم يرفضون العقيدة الحوثية. فالعقيدة الحوثية تطلب منهم أن يقروا بأنهم ليسوا أهلًا للحكم، وأن عليهم أن يقبلوا أن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة، وأن عليهم أن يقبلوا بأن يقتصر دورهم على العمل عسكرًا وموظفين هامشيين، مهمتهم خدمة ورعاية الحوثي وسلالته، والإنفاق عليها عبر ما يسمى الخُمس. وهو ما تم تطبيقه فعليًا خلال فترة حكم الحوثيين القصيرة لبعض مناطق اليمن.
فخلال هذه الفترة؛ تصرف الحوثيون بأسلوب فج وعنجهية مع من هم من خارج السلالة؛ فقد تحول "العدنانيون" إلى أقلية حاكمة مميزة لها نصيب الأسد من السلطة والثروة، فيما تم تجريف القحطانيين من الوظيفة العامة بشكل صارخ، وتم تشريع مبدأ الخمس، للاستحواذ على الثروة العامة.
وهذا السلوك لم يكن سائدًا بهذا الشكل حتى مع أسوأ الأئمة؛ فالعلاقة بين العدنانيين والزيود القحطانيين لم تكن خلال حكم الأئمة علاقة سادة وعبيد، كما يعتقد البعض، وإنما علاقة معقدة، يمكن اختصارها في النقاط التالية:
اتصف حكم الأئمة باللامركزية السياسية في المناطق الزيدية، وبالذات في المناطق القبلية. فباستثناء دولة الإمام يحيى حميد الدين، وبعض الأئمة الأقوياء، لم تكن تتجاوز سلطة الإمام عاصمة حكمه وبعض المدن، فيما ظلت المناطق القبلية محكومة من قبل شيوخها وعبر الأعراف الخاصة بها.
في معظم فترات حكم الأئمة، كان العدنانيون أقلية محمية (هجرة) من قبل القبائل التي يسكنون فيها، وكان دورهم السياسي شبه معدوم في هذه المناطق.
دولة الإمام يحيى كانت الدولة الوحيدة من حكم الأئمة التي امتلكت جيشًا رسميًا، وأسلحة مميزة عن أسلحة القبائل، ويرجع الفضل في ذلك إلى العثمانيين، الذين تركوا أسلحتهم وبعض ضباطهم وأفكارهم، والتي استفاد منها الإمام يحيى. وقبل ذلك التاريخ، كان الأئمة يستخدمون القبائل في معاركهم للحصول على السلطة أو المحافظة عليها، والغزو، ونتيجة لذلك كان الكثير من الأئمة تحت رحمة شيوخ القبائل، كونهم من كان يمتلك القوة العسكرية.
ولهذا فقد تمتع شيوخ القبائل بسلطات واسعة، بخاصة مع الأئمة الضعاف، وأثناء الصراعات المستمرة بينهم على من له الحق في الحكم. وهي الصراعات التي كانت تجلب للقبائل الأموال من الأئمة المتنافسين، وفرصة نهب المناطق المدنية، كما حدث لمدينة صنعاء بعد فشل حركة 48. إلى جانب ذلك، استفاد شيوخ القبائل من مشاركتهم في غزوات المناطق الزراعية التي كان يقوم بها الأئمة، عبر نهب محصولاتها، والاستقرار فيها كشيوخ إقطاعيين تحت السلطة الرمزية للأئمة.
وكل ما ذكرنا يؤكد أن العلاقة بين القبائل، وبالتحديد الشيوخ، والأئمة، لم تكن علاقة تبعية في معظم الفترات، وإنما علاقة تبادل منافع غير مستقرة. وحين كان الأئمة يحاولون أن يحولوها إلى علاقة تبعية، كما حدث مع دولة الإمام يحيى، كان الشيوخ يقاومونها ويتحينون الفرصة للتخلص منها.
ولكون سلطة الحوثي أكثر تسلطًا وطغيانًا من حكم الأئمة، بما في ذلك سلطة الإمام يحيى، فإن المنطق البسيط يشير إلى أن فرص نجاح الحوثيين في تدجين القبائل أصعب بكثير مما تم في الماضي. وما يجعلها أكثر صعوبة تشرب القبائل بالفكر الجمهوري، وتجربتهم الحية مع العصر الجمهوري، والذي تمتعوا فيه بمكانة اجتماعية عالية، وثروات هائلة، وسلطات سياسية ورمزية واسعة، حاول الحوثي ويحاول أن ينتزعها منهم، ويحولهم إلى أتباع خانعين. إضافة إلى ذلك انتشار التعليم وسهولة الحصول على المعلومات عبر وسائل الإعلام الحديثة.
والسؤال المهم الذي قد يثار: لماذا الزيود الجمهوريون لم يقاوموا الحوثي حين سيطر على مناطقهم؟ وكيف سمحوا له بأن يستمر في حكمهم؟ وبما أن الجواب على هذا السؤال معقد وطويل، فسوف أجيب عليه في ورقة أخرى أتمنى إنجازها في وقت قريب.