أسرار مدهشة ومعاني عظيمة في سياق القسم بسورة ‘‘العاديات’’ - قراءة تأملية
من السور القرآنية التي تأملت فيها كثيرا سورة " العاديات " ، وذلك أن الله الله عز وجل في الثلث الأول من السورة قد أقسم بالخيل العادية التي تضبح أي يكون لها صوت وحمحمة ، وتقدح بعدوها السريع الشرر بحوافرها ، المغيرة صبحا ، المثيرة للنقع " الغبار " ، المتوسطة للجمع ؛ كل هذا القسم قد اتخذ مشهدا حربيا مثيراً ، فيه السرعة البالغة القادحة للشرر ، وفيه أجواء معركة حربية كبيرة بما فيها من مفاجأة مباغتة بالإغارة صبحاً ، ومن إثارة كبيرة وفوضى عارمة بالغبار المثار ، ومن توسط للجموع المحتشدة الكبيرة في مشهد عظيم ، وكل هذا ليقسم الله عزوجل ( إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ( 8 ) .!
فلماذا اتخذ سياق القسم في هذه السورة هذا المشهد الحربي المثير الذي يجعلك حين تتأمله كأنك تشاهد معركة حربية كبيرة ؟!
ولو تأملت سياق القسم في سورة " القلم " ( ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴿1﴾ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴿2﴾ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴿3﴾ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴿4﴾ ستجد سياق القسم الإلهي هنا هادئ حنون رصين ليس فيه ذلك الجو الحربي المثير العاصف كما في سياق القسم في سورة " العاديات " فلماذا ؟!
فلو أنك في ذهنك قمت بتركيب سياق القسم الأول كما في سورة " العاديات " على المقسم عليه في سورة " القلم " لوجدته غير متجانس ، لا يستقيم ولا يتناغم مع هذا الموضوع فالقسم بأدوات الحرب من الخيل وعدوها وضبحها وقدحها للشرر وإغارتها صبحا وما تثيره من أجواء معركة حربية لا يتناسب مع تأكيد الله لرسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أنه ما هو بنعمة ربه بمجنون وأن له لأجراً غير ممنون وأنه لعلى خلق عظيم فالمقام هنا يقتضي قسم رصين هادئ حنون حيث أراد الله أن يثبت فؤاد رسوله صلوات ربي وسلامه عليه ، ويسكب في قلبه شلالاً من الطمأنينة ليهدئ من روعه ويثبته ويطمئنه بعد حملة ضارية قاسية شنها المشركون ضده ، اتهموه بالجنون ، فجاء التأكيد الإلهي على أن رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه ليس بمجنون بل راجح العقل سليم الذهن على خلق عظيم وله الأجر الممنون لصبره على هذه الحملات الظالمة ، والاتهامات الباطلة ، والأقاويل الكاذبة ، والافتراءات الساقطة فأقتضى المقام هذا القسم الرصين الهادئ الحنون الذي يفيض بالطمأنينة والأمان ، كما أن المقام مقام دفاع عن الفكر والعقل وتثبيت للقلب وتطمين للفؤاد فأقتضى هذا القسم الذي يناسب هذا المقام .
وكذلك لو أنك وضعت في ذهنك القسم في سورة " القلم " على المقسم به في سورة " العاديات " لما تناغم السياق القرآني ، ولما تناغم وانسجم فمعركة الإنسان في الحياة وركضه بتلك السرعة والتوحش تحتاج قسما من نوع خاص ، قسم فيه أجواء المعركة بكل ما فيها من أبعاد ودلالات .
لكن في سورة " العاديات " كان القسم مختلفاً تماما ، كان مثيرا فيه أجواء معركة حربية كبيرة ليلفت الانتباه إلى أن الإنسان حين يخوي قلبه من الإيمان بالله وإدراك حقيقة الدنيا يغدو كنودا جاحداً بنعم الله محباً للمال ، يبدأ حياته بذلك العدو والركض كتلك الخيول العادية ، يتحول الإنسان إلى وحش يخوض معركة شرسة قاسية في الحياة ، معركة فيها من الركض والعدو السريع ومن الإغارة المفاجئة ومباغتة الخصوم ، ومن الغبار المثار ، ومن توسط الجموع ، والمشاركة في الحشود ، معركة يخوضها الإنسان مع الآخرين ليحقق ذاته وأحلامه ويستغني عن غيره فيطغى ، معركة مع نفسه الأمارة بالسوء ، ومع حبه للمال ، فتوصله كل هذه العوامل مجتمعة لأن يصبح كنودا ، جاحدا بنعم الله ، محباً للمال حباً جما ، محباً لكل متاع دنيوي ، غير شاكراً لأنعم الله ، وغير راض بما قسمه الله له ، فيركض في الدنيا ركض الوحوش في البراري كتلك الخيول العاديات الموريات المغيرات .
فمشهد القسم في سورة العاديات وسياقه مشهداً مثيراً عنيفاً ، جاء بإيقاع سريع صاخب متتابع فيه أجواء الحرب ليناسب السياق القرآني الذي جاء ليتحدث عن معركة الإنسان في حياته وحبه للمال الذي جعله كنوداً محباً لكل خير لنفسه ، فهو يحارب إيمانه وفطرته المؤمنة بالله الشاكرة لنعمه ، يحارب روحه ، يحارب الآخرين ، يحارب العالم كله وهو في حربه هذه هلوعاً كنودا جحوداً كالخيل الراكضة المحاربة .
ولا شيء هنا يوقف هذا الإنسان الراكض كالحصان الجموح في الحياة إلا مشهد النهاية ( {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (11) ) .
لا شيء يوقفه سوى إدراك حقيقة الدنيا التي يخوض معاركه لأجلها فهي فانية ، وسيأتي بعدها بعث ونشور ، وفي البعث تبعثر ما في القبور ، وتحصل ما في الصدور ، ويأتي الحساب فالدنيا ليست النهاية بكل هي البداية.!
هذا المشهد الأخروي المفزع من بعثرة لما في القبور من موتى بعظامهم ، وجمع لما في الصور من أسرار وخفايا هو الكفيل وحده بأن يدفع كل كنود جحود كفور لإعادة حساباته ومراجعة نفسه ، هذا المشهد الصادم المخيف هو التذكير الإلهي الذي يحتاجه كل كنود لعله يعود .
ولذا جاء ختام الصورة باستفهام استنكاري أفلا يعلم ؟!
وفيه تهديد واضح ، ألا يعلم هذا الجاحد الكنود بالنهاية والعودة إلى الله ( إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (11).
فبعد هذه المعركة الحياتية الصاخبة المثيرة والتي يخوضوها الإنسان راكضا فيها كالخيول العادية المورية المغيرة المثيرة المتوسطة الراكضة في البراري يعود إلى الله حطاما مبعثرا للحساب والعقاب ورب الناس يومئذ بهم خبيرا ، إليه إيابهم وعليه حسابهم .
وفي الختام نؤكد على أهمية التنبه للسياق القرآني في السور ففيه معاني هامة ودلالات عظيمة ، فالقرآن الكريم معجز بلفظه ومعناه وسياقه ، ومن تأمل فيه وجد الأسرار المدهشة والمعاني العظيمة ، والدلالات الهامة ، ونحن في هذا المقام وقفنا على ساحل محيط القرآن والتقطنا بعض الأصداف واللألئ فكيف لو غصنا في أعماقه ؟!