الإبداع والجنس!
قد يبدو العنوانُ غريبًا نوعًا ما لأول وهلة لدى البعض، متبوعًا بسؤال: وما العلاقة بينهما؟
من وجهة نظر سيكولوجية العلاقة طردية بين الجنس والإبداع، فحيث كان الإبداع كامنًا تلاشى الجنسُ واختفى. الإبداع بما هو حالة من الشرود العقلي في العالم الآخر، أيا كان هذا الإبداع: شعر، رسم، موسيقى، رقص، تراتيل دينية.. إلخ. كلما تماهى المبدع في هذه الطقوس تقلصت دائرة الجنس وتلاشت، وبخروج الإنسان من دائرة الإبداع يكون حظ الجنس منه. ومن هنا كانت تلك المقولة للفيلسوف شو: "لن تكف العاهرات عن الوجود في هذا العالم ما لم يُصبح الإنسان مبدعًا". إنها إشارة محقة في صميم البعد النفسي لطبيعة العلاقة الطردية بين الإبداع والجنس، فهو يصرح: لا وجود لعاهرات مع وجود إبداع.
إنها واحدية الطاقة الخلاقة المتدفقة في الإنسان، تارة تتفجرُ إبداعًا، وتارة تتفجر جنسًا، وتارة أخرى تتفجرُ عنفا؛ لذا فكثير من مجرمي العالم اشتهروا بالبلادة الجنسية "العنّة". هتلر أنموذجا. ومن أئمة اليمن عبدالله بن حمزة الذي أصابته العنّة آخر عمره، وكذا الإمام أحمد حميد الدين، الذي كان يمارسُ الجنس فسوقًا نظريا حسب تعبير البردوني.
هذه هي المنافذ التي تتفجر فيه الطاقة الكامنة في الإنسان. لهذا يتوحش بعض الناس ويتغير مزاجه إذا ما غابت خليلته عن المنزل، وجزء من التوحش أو التضايق على أحسن الأحوال نابع من الطاقة الجنسية المكبوتة، وليس بالضّرورة أن يكون الجنس "الميكانيكي"؛ بل مقدماته التي تأخذ ذاتَ الحكم أحيانا.
كان فقهاؤنا الأوائل يحذرون مريديهم الشبابَ من الوقوعِ في أسر النظرةِ الآثمة، أو المعاصي بشكل عام التي تسرقُ منهم إبداعاتهم العلميّة وملكاتهم الذهنية؛ ذلك لأن الطاقة الكامنة في روحِ الإنسان قد انسربت في مسَارٍ آخر غير مسَار الإبداع، وفي قصيدة تلميذ "وكيع" إشارةٌ جزئية إلى هذا المعنى.
"شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
الطاقة الكامنة في الإنسان تتحولُ ولا تتدمر نهائيا، كالماء المتدفق يبحث لنفسه بنفسه عن مسارب للجرَيان، وكلما أوصدتَ أمامه سدًا بحث لنفسه عن طريق آخر للنفاذ، وقد يكونُ الطريقُ البديل أخطر، وإذن فوظيفة الحكيم "الواعي" هي إدارة هذا التدفق وتوظيفه إيجابيا قبل أن يصبح حالة مدمرة، فالسيول المتدفقة إن لم يتم احتواؤها جرفت كل ما تأتي عليه، ومن ثم تحولت من نعمة إلى نقمة..!
الظاهرةُ لا تمسُّ غير المتدينين فحسب؛ بل حتى المتدينين، وفي كل الأديان أيضا، فمن يُمارس طقوسَه الروحيّة بكل جوارحه تتلاشى لديه طاقة الجنس، ومن يبدع بحثا وتأليفا وكتابة وشعرا ورسما.. إلخ كذلك تتلاشى وربما تختفي؛ لذا فنسبة كبيرة من علمائنا الكبار المبدعين كانوا عُزّابا: ابن جرير الطبري، أبو القاسم الزمخشري، أبو العلاء المعري، ابن تيمية، النووي، سيد قطب، العقاد، وجمال البنا. هؤلاء كلهم من العلماء العزاب. هؤلاء تطهروا بالإبداع، وتماهوا به.
الجنسُ ليس عملية فسيولوجيّة، وإن كان الجسدُ أداة هذه العملية، إنه عملية سيكولوجية بالدرجة الأولى، عملية استنزاف داخلية نحو الخارج، يتم التعبير عنه بالحركة "ميكانيكا الجنس". وفي حال استنزاف هذه الطاقة في مجال فني آخر غاب الجنس وكأن لم يكن.
إنّ عملية نظم قصيدة ما تبدو كما لو أنها من الأعمال الشاقة، أو كعملية نقل الصخور، تُنهك قوى الشاعر وتستنزفه داخليًا، فلا ينهيها إلا خائرَ القوى، واهنَ العزيمة. أتكلم هنا عن الشاعر الذي عاش جو القصيدة، وطاف محلقا في مدارات الإبداع، لا عن الناظم المتشاعر الذي رصف بعض الكلمات على بعضها، ثم اعتقد أنه كتب قصيدة. ونستطيع القول هنا: إن استطاع أي شاعر أن يلتفت إلى الجنس بعد كتابة قصيدة ما فقصيدته ناقصة، غير مكتملة، وربما لم ترقَ إلى مُسمى القصيدة، وليتحسس الشعراءُ قصائدهم الكاملة والناقصة معا.! ذات الشأن أيضا مع الباحثين الجادين؛ بل مع المُتبتلين والمتنسكين دينيًا.
يُروى عن الفنان التشكيلي الكبير ليوناردو دافنشي حين كان يرسم لوحة "العشاء المقدس" التي ظل يرسمها ثلاثة سنوات، أنه كان يصعد السّقالة مبكرًا جدًا في الصباح، ولا يترك الفرشاة في يده حتى وقت الغروب، دون أن يفكر أبدًا في مأكلٍ أو مشرب.
ألم ينقطع كثيرٌ من أقطاب الصوفية في عوالمهم الخاصة المتصلة بالعالم العلوي؟! إنهم يمارسون "فنونا روحية/ جنسًا روحيا" خاصا بهم، في عوالمهم الافتراضية، يستفرغون فيها طاقاتهم تماما، كما يتماهى الموسيقي والرسام والشاعر في عوالمه الخاصة.
هذه نظرية، وللنظرية عكسها بطبيعة الحال..! فماذا أنتم قائلون؟!