عبدالرقيب عبدالوهاب.. لماذا اغتيل بطل السبعين؟!(12)
تهمة التحزب والإلحاد ضمن أجندة الاغتيال
ظلت تهمة التحزب والتحرر والحداثة والإلحاد والشيوعية تلقى جزافاً، أو حقيقة، وبشكل مستمر منذ أحداث أغسطس وحتى الانقلاب الحوثي على الدولة، على كل منتسبي الجيش المتنورين، وبلغت ذروتها في حرب صيف 1994، وقد تعرض الكاتب لأبشعها اعتقالاً ومحاولات تصفيات عديدة، وتعرض لها زملاء آخرون ضباطاً وأفراداً اعتقالاً وتعذيباً وتسريحاً من الجيش وسلباً للحقوق، وشهدت الفترة الانتقالية لما بعد الوحدة، خاصة بين عامي 1992 و1994، أسوأ تعبئة تحريضية وحملات التشويه بين أطراف الوحدة المختلفة أفضت إلى اغتيالات متعددة وحرب صيف 1994، خاصة أوساط الجيش والأمن، بينما لم تتعرض له المؤسسات المدنية كثيراً، بحسب متابعتي للأحداث. كانت أسوأ حملة تعبوية عنصرية مناطقية بعد أحداث أغسطس 1968. ومن يريد أن يجرب العنصرية المناطقية والحزبية والطائفية كان يسلك طريق الجيش والأمن ليعرفهما حق المعرفة، وهي لم تكن تمارس بقوة وظاهرة في الجانب المدني إلا في المناصب التنفيذية العليا.
سأذكر هنا قصة حصرية لبطل مطمور خفي ومظلوم، تعرض لأشد أنواع الظلم؛ حياً وأبشع أنواع التصفية قتلاً.
الرائد عبدالواحد العاطفي؛ رائد في الجيش اليمني كان ضمن ضباط اللواء الأول مدفعية، خريج كلية حربية، وينحدر من محافظة إب، ظل مهمشاً ومحارباً في راتبه ورتبته ومسيرته العسكرية. حورب باسم الاشتراكية والشيوعية، كما كانت التهمة توجه إلينا جميعاً بباطل ورغم معرفة الجميع حينها بإصلاحيتي؛ فقد كنا في السكن سواء، وتم التضييق عليه في كل شيء، حتى بدأت بوادر حرب صيف 1994، فلم يكن معه من خيار إلا العمل مع "جيش الشرعية" كما كان يسمى حينها.
أثناء المعركة وتقدم الجيش في الضالع وفي منطقة الحبيلين كان يعمل قائداً لوحدة الاستطلاع وتقدم لاستطلاع المنطقة قبل اللواء، ولأنه لا يتم الوثوق به كما لم يتم الوثوق بآخرين كانوا يجعلونهم في المقدمة لا في المؤخرة خوفاً من الغدر خاصة أبناء تعز في اللواء، وربما يكون ضابط كبير من أولئك يقرأ هذا الموضوع ويقره، وربما يعقب عليه.
وهو يستطلع الجيش الجنوبي (جيش الحزب الاشتراكي كما كان يسمى) وقع في كمين للجنوبيين الذين يتهم بالتعاطف والتخابر معهم كونه اشتراكياً، فما كان من الجنوبيين الذين أمسكوا به إلا أن رشوه بالبنزين وأحرقوه حياً، فلا هو سلم التهمة والمضايقة ولا هو نجا من المحسوب عليهم!
وقعت تلك الحادثة وشهرت الحادثة التي تليها مباشرة؛ أن تم تعيين بديل له هو الملازم مجاهد الجبر من أبناء ذمار ليذهب في نفس المهمة الاستطلاعية ووقع في أيدي الجنوبيين أيضاً ووقعت له حادثة أسوأ من حادثة العاطفي؛ فقد غرغروه بالبنزين وأشربوه بالقوة ورشوا جسمه أيضاً وأحرقوه حياً، وقبره لا زال هناك على قارعة الطريق في حبيل جبر يراه كل مسافر على الطريق.
الشاهد في القصة أنه ليس كل من اتهم بتهمة معينة كانت تهمة حقيقية ويدفع المتهم الثمن مرتين حياً بالتضييق عليه ومحاربته وتشويهه، وروحه ثمناً لسوء الظن وسوء التقدير، ولتصفية حسابات معينة، ولتبنى عليها أجندة أخرى من قبل الفاعلين السياسيين أو العسكريين، وباسم الاشتراكية والشيوعية شمالاً، وباسم الأخونة والإسلامية جنوباً، وكبقايا أثر لأحداث أغسطس!
لا أخفي سراً أن الرجل كان متعاطفاً مع الحزب الاشتراكي يومها نعم، لكنه كان تعاطفاً فكرياً لم يترتب عليه أي تصرف مشين يضر بمهنته أو بأجندة وحدته العسكرية، والحزبية أساساً كانت منتشرة بأنواعها حتى في إطار القوات المسلحة!
لكن كانت تلك الحرب مفصلية أيضاً في أشياء كثيرة، فبعد تلك الحرب تغيرت مفاهيم وسلوكيات كثيرة إيجابية لصالح التخلص من المناطقية الشديدة التي كانت تمارس في الوحدات العسكرية ليس المجال لسردها حالياً، سأفصل فيها في كتابات أخرى – إن شاء الله.
اختلفت الروايات في حزبية عبدالرقيب، وكثير منها تؤكد يساريته وعلاقته بحركة القوميين العرب وليس له علاقة بقيادات الجنوب؛ فقد كان يسارياً وليس ماركسياً بحسب كثيرين، غير أن يحيى الكحلاني ينفي حزبيته بالكلية.
اجتمعت في حق عبدالرقيب التهمة الحزبية والمناطقية والطائفية، كما فهمنا من مذكرات الإرياني، فضلاً عن الدافع لتقديم كباش فداء للسير في طريق المصالحة بما يمثله ذلك التيار المتشدد ثورياً من عملية المصالحة، فهل كان عبد الرقيب من الحماقة بمكان أن يعلن طائفيته الضعيفة في محيطٍ مغاير تماماً لطائفته؟ أم هي تهمة وجهت إليه لتبرير إقصائه وقتله، خاصة وأن الإرياني قد حذره وشرح له هذا الأمر بالتفصيل، كما يقول؟!
هي ذات التهمة التي وجهت لعبدالغني مطهر والافتراء عليه أنه "سيفصل المناطق الجنوبية من اليمن ويعمل على ضمها إلى عدن، وأنه اتصل بالحديدة لتنفيذ هذا المخطط"، والتي أودت به إلى المعتقل الانفرادي، ومحاولة تصفيته بعد إهانته وإذلاله، والحقيقة أنه تعرض لذلك كونه عارض الانقلاب على السلال.
ويذكر عبدالغني مطهر سبباً آخر لاعتقاله وجعل مصيره مذلاً، وهو أهم داعم ومخطط للثورة؛ بل يعتبر قائدها في محافظة تعز بلا منازع، وأكبر داعم لها على المستوى العام في اليمن، وهذا السبب هو أنه رفض الانقلاب على السلال، ورفض تأييد الإرياني في ذلك، وحذرهم من الإقدام على اغتيال السلال، كما كان مخططاً له في الحديدة، وهو ذات الدافع لمقتل العواضي؛ فقد كتب العواضي للسلال يستحثه على العودة السريعة من الخارج قبل الانقلاب عليه.
وقد كان العمري وكثير من الضباط معه، وخاصة رؤوس الفتنة يعيرون علي مثنى قائد المدفعية وأحد أبطال حصار السبعين ويستنقصونه وينادونه بـ"الحبشي"، وأفضت إلى اعتقاله وتعذيبه تعذيباً وحشياً بالكي بالنار والكهرباء، وهو من المناطق الوسطى، ولم يفرج عنه إلا في عهد الرئيس الحمدي!
في نهاية المطاف نجد أن روايات مقتل عبدالرقيب يناقض بعضها بعضاً، وتدل على أن القضية ليست كما صورها الجانب الرسمي، بدليل أن سياسيين آخرين من تعز وإب تم الزج بهم في المعتقلات كعبدالغني مطهر ومحمد علي الأسودي وأحمد ناجي العديني، والعقيد محمد مفرح والأستاذ عبدالرحمن جابر والأستاذ قاسم غالب، وعلي الشرعي، واستمرت التصفيات قبله وبعده الى عبده محمد المخلافي وعبدالعزيز الحروي الذي اغتيل في العاصمة اللبنانية بيروت في ظروف غامضة في تاريخ: 4/8/1393هـ - 1/9/1973م، ومحمد علي عثمان، ومحمد النعمان، والحجري، وصولاً الى مشايخ تعز فيما بعد الى بداية الثمانينات، كان آخرهم الشيخ أحمد سيف الشرجبي، الذي صفي عن عمد في عهد صالح لتدخله بالصلح لإنهاء حرب قبيلتي سامع وبني يوسف، حتى لا يعلو شأنه بين أبناء الحجرية، خاصة وأن تلك الحرب كانت مغذاة من طرف صالح نفسه وسبقه تهديد له بعدم التدخل بشأنها؛ بل امتدت التهم الطائفية إلى العقيد الحوري الريمي، وتم محاصرة منزله واطلاق النار على زوجته وبترت قدمها بالاعتداء عليها وسط صنعاء القديمة!
يذكر أحد قيادات الناصريين اليوم، وهو حسن العديني، أنه سأل أحد الضباط المبعدين إلى الجزائر من فريق عبدالرقيب في ذلك الوقت، وهو الرائد حينها يحيى الكحلاني عن الحادثة كلها، فيقول: "سألت الصديق اللواء يحيى الكحلاني، وكان ضمن الضباط الذين نفوا إلى الجزائر، عما إذا كانت الصاعقة بقيت بدون قيادة حتى يرجع عبدالرقيب من منفاه، ويدخل معسكره في جبل عيبان، ويحاول استئناف ما حدث في أغسطس فأنكر الرجل أن يكون عبدالرقيب عاد، ودخل معسكر الصاعقة، حيث خلفه ضابط من مأرب في قيادة الوحدة. قال إنه كانت هناك وشايات وتحريض من بعض الضباط الذين عادوا معهم من الجزائر، لدى الفريق العمري، وأنه استدعى عبدالرقيب، واحتجزه بالفعل، لكنه استطاع الهرب، واختفى في منزل علي سيف الخولاني. ونفى يحيى الكحلاني تمامًا أن يكون الخولاني غدر به، كما كان الظن عندي، وكما هو شائع.
قال إن علي الخولاني وحسين الدفعي أرادا إخفاء عبدالرقيب حتى يتدبر له مخرجًا، وأن القاضي عبدالسلام صبرة عرف بالأمر، فوشى لدى الفريق الذي أرسل طقمين من العسكر ليسوا من الصاعقة والمظلات، كما ادعى القاضي، وأنهم بعد أن قتلوه سحلوا جثته في الطريق من بيت علي سيف الخولاني في الصافية، إلى ميدان التحرير، وهناك صلبوه على جدار وزارة المواصلات، حتى جاء الشيخ أحمد علي المطري، وأخذه، وراح يدفنه"(أوردنا تفاصيل رواية الكحلاني كاملة في الحلقة السابقة عن صحيفة الثورة).
وهي قريبة من الرواية الرسمية تماماً إلا في بعض الجمل، وهذا كله يؤكد هيمنة الرواية الرسمية، وعدم معرفة ما جرى بالضبط من قبل أصحاب عبدالرقيب إلا الاستنتاجات والتحليلات التي تهيمن على كل من تطرق لهذه الحادثة، وأنا أحدهم.
تقول الروايات الأساسية لمقتل عبدالرقيب أن الخولاني بعدما عاد من عند العمري وقد طلب الأمان لعبدالرقيب وذهب يناديه من خارج البيت بأن يسلم نفسه، وأنه رفض التسليم، وهناك كلمة فاصلة وخط رفيع من الموقف وسرد قصة التصفية من قبل الخولاني، وهي أن حراسة عبدالرقيب اشتبكت مع الطقمين المحاصرين ثم قتل، وهنا فتحت التأويلات لكيفية القتل، لكن في هذه الجملة الأخيرة الكثير والكثير من المسكوت عنه وما تم إخفاؤه في الحادثة، وهي:
- كيفية طلب الخولاني الأمان له وتعهده بأن يسلمه حياً، وفجأة تتم عملية القتل في منزله!
- كيف يكون لعبدالرقيب حراسة مرافقة والقصة تقول بأنه فر من محبسه جوار الكهرباء ولجأ لبيت الخولاني طلباً للأمان؟!
- الخولاني يعود إلى بيته الذي خرج منه للتوسط لدى العمري ومن الطبيعي الدخول السهل إليه لمحاورة عبدالرقيب، إلا أن القصة عادت لتقول إن الخولاني كان ضمن المحاصرين لعبدالرقيب في بيته وفجأة يعلن مقتله!
- داخل الراوية الرسمية لمقتل الرجل روايات أخرى متعددة؛ منها أن ذخيرته نفدت وآخر طلقة صفى بها نفسه، وأخرى أنه قتل في الاشتباك، وثالثة أن بعض المسلحين غدر به، ومرة يقال كان معه مسدس وأخرى كان معه رشاش!
- إذا كان ذهب الخولاني للتوسط لدى العمري بإخراجه سالماً، ثم قتل بعد ذلك، لماذا تم أخذ جثته إلى ميدان التحرير وكانت الجماهير الغاضبة منه هي التي بيدها الجثة وتحاول سحله بينما الخولاني يقف عند بابه الأصل أن يسلمه جثة للجهات المعنية بعد انتهاء قصته أو تسليمه لأهله وذويه لدفنه؟!
- لماذا لم يحل الخولاني والعمري بين جثة عبدالرقيب والغوغاء الذين تركوا جثته في التحرير يوماً أو يومين ولم يتم تخليصها إلا بمرور الشيخين أحمد علي المطري وأبو شوارب اللذين خلصاها من بين يدي الغوغاء وذهبا لدفنه، ولا أحد يعلم مكان دفنه حتى اليوم؟!
- لماذا لم يتم توديع جثمانه بوداع رسمي كما تفعل القيادات عادة حتى لو تم تصفية الشخصية كذر للرماد في العيون والتغطية على الحادثة؟!
- كيف وقف قاسم منصر يؤنب الجمهوريين لسحل جثة عبدالرقيب بقولته المشهورة "حمي عليكم تسحلون بطل معركة شعوب"، دون أن يخلصه هو الآخر من تلك الظروف، بينما تتحدث بعض الروايات عن تخليصه من قبل المطري الذي روي عنه أيضاً عداواته مع عبدالرقيب، بينما مطهر يتحدث عن الشيخ مجاهد أبو شوارب؟!
- يذكر أقاربه أنهم دفنوا الجثمان باسم الشهيد عبدالمجيد عبدالواسع خوفاً من نبش القبر والتمثيل بالجثمان، مما يعكس الظروف العصيبة التي تمت بها التصفية وأحاطت بالقضية؟!
- أسئلة كثيرة بحاجة إلى إجابات فاصلة وشافية حتى لا تظل لغزاً محيراً إلى يوم الدين.
يذكر عبدالغني مطهر أنه بعد تصفية عبدالرقيب اعتقل الرائد هائل محمد قائد الصاعقة بعد عبدالرقيب، وأودع سجن القلعة، وناله من العذاب ما يفوق طاقة البشر على تحمله؛ فمن الكي بالنار والكهرباء إلى انتزاع الأظافر وصب الماء البارد على جسده ليلاً ونهاراً في أشد أجواء صنعاء برودة حتى فقد عقله، وأطلقه الرئيس الحمدي في رئاسته، وسفره إلى القاهرة للعلاج. أ هـ
وهذا معناه استمرار تصفية الضباط في تيار عبدالرقيب ككل وليس فقط المقصود عبدالرقيب وحده، وهو قربان المصالحة كما خطط له.
يتهم السكرتير الإعلامي للعمري وهو محمد الشعيبي، الخولاني بأنه كان يقوم سراً بعملية التجنيد العسكري لصالح الوحدات المضادة، وذلك تحت شعار محاربة الشوافع الخارجين على النظام العام، بينما كان قطاع البرجوازية التجارية والسماسرة والمقاولين ورؤساء العشائر يجزلون العطاء لوحدة سلاح المدرعات والاحتياط ويحفزونهم على "مقاتلة الشيوعيين" في وحدات المظلات والصاعقة والمهندسين، بما يعني كون تلك المعركة كانت لخدمة أهداف سياسية ومصالح اجتماعية ولم تكن –في جوهرها- بأي حال طائفية، كما أراد لها البعض، بل كانت الطائفية مجرد ستار، بهدف إضفاء جو من الحقد والكراهية والتعصب الأعمى الذي لا يبقي ولا يذر.
وصلت هذه التصفيات حداً لا يطاق مارسها إخوة النضال في عام 1968 تحت شعار الطائفية، حد قيام كل قائد وحدة على حدة بتصفية أفراد قوات وحداته الذين لا ينتمون إلى منطقة الزيدية أو الشافعية، على حد تعبير قادة الأطراف المتحاربة، غير أن هذا الأمر لم يذكر صراحة من بقية المدونين لتلك الأحداث غير الشعيبي.أهـ
هذا السرد لواحد من أهم رجال ومعاوني العمري المدنيين، يتفق مع ما طرحه عبدالغني مطهر من أنه حصلت تعبئة جماهيرية عامة ضد عبدالرقيب ورجاله والشافعية عموماً في صنعاء عبر المنابر والصحف وغيرها سواء بالمناطقية أو الطائفية أو الحزبية باتهامهم بالشيوعية والماركسية.
....يتبع