السبت 7 ديسمبر 2024 04:40 صـ 6 جمادى آخر 1446 هـ
االمشهد اليمني
Embedded Image
×

في أهمية الشعور بالنقص

الجمعة 29 نوفمبر 2024 12:29 مـ 28 جمادى أول 1446 هـ

"إنّ الطاقة المُسَمّاة رغبة هي الطاقة الإلهية ذاتها" أوشو
في تقديري أن الشُّعورَ بالنقص جزءٌ من الاكتمال، والنقص الذي أعنيه هنا النقص في العملية الإبداعية التي ترافقُ مسيرة الشخص في أي مجال من مجالاته، وليس المصطلح النفسي الشهير الذي يتداوله البعض، بمعناه السلبي غالبا. أتكلم هنا عن أهمية الشعور بالنقص في أفقه الإيجابي.

وفي الواقع إذا ما شعر أيُّ مبدع، في أي مجال كان بالامتلاء أو بالاكتمال في عمليته الإبداعية فليعلم أن فكره وعقله قد توقف عن الإبداع نهائيا. يشبه الأمر توقف النهر عن الجريان في حال جف منبعه. الحياة بتفاصيلها وإبداعاتها هي النهر، والإبداعُ هو النبعُ الذي يمده بالجريان والتدفق.

تظل الحياة مستمرة وفاعلة دوما في البحث عن استكمال النقص الذي نشعر به في مختلف جوانب حياتنا، في البحث عن الجديد الذي يشبع رغباتنا وحاجاتنا.. في الابتكار الذي نحققه لسد فجوة ما نعاني منها.

إن الرغبة في الاكتمال والطموح كدافع للتميز هما محركا الحياة اللذان يمدانها بالديمومة والتجدد والاستمرار، فإذا ما فقدنا هاتين الخاصيتين حكمنا على حياتنا بالفناء، والواقع أن الحضارات لا تتكلس والدول لا تتراجع إلا إذا شعر عقلها الجمعي بالاكتمال النهائي على حين غياب القائد الكبير الذي يستنهضُ الهمم ويستثير في الأمة كوامن الإبداع والتجدد.

للفرد طاقته الإبداعية المنفعلة تارة والهادئة تارة أخرى، وفي حال تم قمع هذه الطاقة أو كبتها تتفجر في مجال آخر، كالنهر تماما الذي يتدفق شاقا لنفسه طريقه بنفسه، فإذا ما اصطدم بحاجز ما بحث لنفسه عن مسار آخر، وقد يغمر ذلك الفراغ حتى يفيض.. والشاهد أنه لا يتوقف أبدا؛ لهذا نرى بعضا ممن قُمعت أفكارهم أو كبتت إبداعاتهم يصيبهم الجنون. كما نجد آخرين يلجؤون إلى العنف، وكلاهما نبعان منسربان من منبع واحد.

يموت الفنان إذا ما اكتملت اللوحة، وينتهي الشاعر إذا ما رضي عن قصيدته، ويجف الفكر إذا ما اعتقد الأديب أو الكاتب أنه بلغ الذروة؛ لهذا لا يوقف العمل في أي كتاب غير طباعة الكتاب، وفي حال ظل الكتاب قيد أدراج مؤلفه قبل الطبع فلن ينتهي منه ولو بعد مئة عام. لهذا قال الشاعر الحكيم:
إذا تَمَّ أمرٌ بدا نَقصُهُ
تَوَقّع زوالاً إذا قيلَ تَم
وفي مرثية أبي البقاء الرندي:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسان

والحقيقة ألا تمام ولا اكتمال لشيء في الحياة، لأن لكل زمن يتجدد شروطه الخاصة به التي يفرضها، والحاصل إنما هو الشعور بالاكتمال، وهنا مكمن الخطورة.
هناك القلق المشروع، والقلق سمة متأصلة في الشخصية الإبداعية التي لا تستقر على حال في الغالب، تظل قلقة على الدوام، باحثة عن الجديد، مع أنها لن تصل إلى النتيجة النهائية؛ لكن أن تقلق مع البحث الدؤوب والنشاط المستمر خير من أن تطمئن إلى الوهم المسيطر الذي يجعله كالجلمود الصلد.

الخلاصة.. الشعور بعدم الاكتمال في مسيرتنا الإبداعية حالة من الاكتمال الإبداعي الذي يضمن حياة متجددة، وإبداعا متواصلا، لا تتوقف حياة الناس فيه عند نقطة محددة، فتشيخ وتتكلس؛ بل تظل متدفقة على الدوام.