عبدالرقيب عبدالوهاب.. لماذا اغتيل بطل السبعين؟! (7)
صراع أغسطس الدامي بين الجمهوريين (2)
في رسالة مطولة من الشيخ علي المطري للشيخ سنان أبو لحوم، محافظ الحديدة، الذي لم يكن حاضراً في الأحداث، وفيها الكثير من تفاصيل الوقائع، اتضح أن المشايخ كانوا هم السلطة الحقيقية المهيمنة على مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش، الغالبين الإرياني على القيادة والسلطة، ونستشف من خلالها أن منطق المناطقية والصراع الحزبي كان هو السائد، وليس بذاك الصراع الطائفي الذي صوره الإرياني؛ فهم يأخذون وينفذون كل مطالب قبائل الشمال تسليحاً وعسكرة وتمويلاً وإطلاق اليد وتنفيذ مشاريع، بينما يعتقلون ويصفون الطرف الآخر من أبناء تعز ويسرحوهم من المعسكرات ويعتقلون حتى التجار المدنيين منهم، ويتهمونهم بالإلحاد والحزبية، بينما يرفض ذلك مطيع دماج، ومع ذلك أهانوه وتحاملوا عليه لأنه برر لهم أن الحزبية موجودة في كل الدول والشعوب.
وهذه مقتطفات من رسالة المطري للشيخ سنان بالنص:
عبدالله الصيقل (لعنه الله وأخزاه اعتقل)؛ لأنه أمس الليل أدخل اثنين اشخاص مع رشاش، وبقي طوال الليل يضرب إلى بيتنا، ونسي كل المروات ونكف، هكذا الملحدين.
على سيف موقفه مشرف جدًا، ويعمل بمغامرة. لا نتصور اللجنة التي لقيت كما سمعتم من الإذاعة.
وقد عمل عبدالله الأحمر رسالة للعمري إذا لم يحصل الضبط والمحاكم للفوضويين، فإن القبائل ستحدد موقفها من الجميع. كما وصل أن العمري والوزراء وهم في خير اجتماع لتعيين اللجنة، وكان مجاهد لديهم وأخبرهم أن المرتزقة ( . . .)
الموقف في صنعاء: حصل اصطدام كبير، وحصل البداية من المظلات، ولكن تصدت لها المدرعات وأنزلت فيها أشد الضربات، ثم قامت الصاعقة والمظلات والمدفعية صفًا واحدًا ضد العاصفة والمدرعات، فأثبتوا المدرعات القوة بجدارة، فبدأوا بضرب المظلات ثم زحفوا بالدبابات واحتلوا المطار، وأخذوا القواعد الصاروخية، وطهروا مدرسة الصاعقة والرفاعي، وبقيت المقاومة من البيوت في الصعدي فضربوا أكثرها، ثم دخلت الصاعقة إلى مدرسة الشرطة العسكرية في
العرضي، وخرجت من صنعاء الساعة 5 ونصف والمقاومة هنالك أيضًا ولم يستطيعوا أن يطلقوا ثلاث طلقات، لأننا محتلين كل الجبال المحيطة بعيبان في الصباحة وما حولها من الجبال، ونهار اليوم ضربوا بعض طلقات، وكنت في صنعاء في حال عملية اعتقالات، فاتصل بي الفريق العمري وألزمني بسرعة عزمي لتهدئة موقف عيبان، كذا تم اعتقال الكثير من الحركيين والمقاومة (الشعرية)، وبعض التجار لأنها حصلت مقاومة في بعض البيوت الحديثة (. .) لم نجده، مالك الإرياني اعتقل محسن العيني وأحمد عبده سعيد وحمود بيدر لا زالوا بيد الصاعقة، ولكن لم فهمنا في أي محل هم الآن.
وقدمت الصاعقة والمظلات عددًا كبيرًا في الحبس، محمد صالح فرحان تم اعتقاله.
يضيف المطري:
أيضًا كان عزمنا عمران لمقابلة مشايخ بكيل الذي يرأسهم عبدالله صالح، وقد كان منا مناقشتهم في عمران فطلبوا الآتي:
-1 تشكيل قضاء من عيال سريح والجبل والسودة ومرهبة ويكون عامل القضاء عبدالله محسن ثوابه ومقره ريده.
-2 تغيير محافظي الألوية من المشايخ والضباط وعدم توظيفهم.
-3 شق طريق صنعاء صعدة وتكون من ريده، ومن ريده يفتح فرع إلى عمران.
-4 بناء مستشفى ومدرسة في ريده.
-5 تشكيل لواء من قبائل بكيل ويدرب ويسلح بأحدث الأسلحة ويبقى في ريده بقيادة بيت الضلعي.
-6 تسوية بكيل في جميع الإمكانيات المدنية والعسكرية كحاشد.
فكان منهم، وعد لنا لهم القرارات كلها واتفقنا مع لجنة منهم.
يواصل المطري:
عزمت بعد ذلك أعطيت الخبرة أوامر باعتقال من أعرف من الحركيين، وقبضوا على كثير من المقاومة، كما قام الأخ مجاهد بحملة اعتقال من جانبه، وقام الأمن باعتقال وكذلك الشرطة العسكرية الموجودة بصنعاء قامت باعتقالات، الجميع في الرادع، والقلعة، والداخلية، كلاً بقدر ذنبه!
المطري هنا يعترف أن محمد صالح فرحان اعتقل اعتقالاً، فكيف تم تصفيته لاحقاً؟!
بينما يذكر الشيخ الأحمر أنه قتل أثناء المواجهات!
محمد صالح فرحان يشهد له الشيخ الأحمر أنه كان قائداً شجاعاً ومقداماً لا يخاف بين كل زملائه، وله دور كبير في إنهاء حصار صنعاء، وربما تم التركيز عليه أولاً لتصفيته لهذا السبب.
الرسالة مطولة، وتعد وثيقة تاريخية بحد ذاتها، وفيها الكثير من الملاحظات والاستنتاجات، أهمها:
- أولاً: أن المعركة الأساسية كانت بين الصاعقة والمظلات والمدفعية من ناحية بقيادة عبدالرقيب، وبين لواء العاصفة والمدرعات بقيادة علي سيف الخولاني من ناحية أخرى، وهذا سيقودنا إلى تساؤلات عدة: كيف لجأ عبدالرقيب إلى عدوه الأساسي؟ كيف كان مقتله غامضاً في بيت الخولاني؟ كيف تم تصفية محمد صالح فرحان؟!
- ثانياً: اشتراك كل مشايخ القبائل الشمالية ضد طرف عبدالرقيب واتهامه بالإلحاد والحركيين والتمرد تكشف أن الصراع كان مناطقياً ومهنياً في نفس الوقت، كما أشار إلى ذلك الشيخ الأحمر!
- ثالثاً: عسكرة المقاومة الشعبية والقبائل من حاشد وبكيل ونهم وتلبية مطالبهم بتشكيل ألوية وعلى أحدث الأسلحة، ومنحهم المشاريع المختلفة!
- رابعاً: بينما على الطرف الآخر منعهم من التسلح، وتسريحهم من المعسكرات، وضربهم في كل مكان تواجدوا فيه، واعتقالات بحقهم سواء كانوا عسكريين أو مدنيين حتى من التجار، وهذا يكشف لنا سبب اعتقال أحد الآباء المؤسسين وهو عبدالغني مطهر مجدداً بعد أن أخرجوه من المعتقل قبل ذلك ليشارك في فك الحصار عن صنعاء، مع أنه كان حينها في تعز ولم يتواجد في صنعاء، وتم سحبه إلى صنعاء سحباً مذلاً.
- خامساً: لم يشر المطري إلى أية إشارة طائفية في هذا الصراع، كما فعل الشيخ الأحمر أيضاً، وهذه نقطة إيجابية للشيخين بعكس مذكرات الإرياني التي تطفح طائفياً.
- سادساً: كأني بمشهد الفترة الانتقالية في صنعاء التي شهدتها اليمن في الفترة بين عامي 1992 و1994 التي أفضت إلى الحرب، وكنت شاهداً على كثير من تفاصيلها وكأنها تكرار لأحداث أغسطس في كل تفاصيلها (تصفية، تسريحاً من الجيش، اعتقالات، إقصاءات)، وقد دفعتنا أثماناً باهظة تحت نفس المسمى (حزبيين، اشتراكيين ملحدين، مناطقيين)! وكما كان هو ذات الحال في عدن في تلك الأثناء بالنسبة للشماليين وإن كان بشكل أقل.
- سابعاً: أفضت إلى تحكم المشايخ وتعزيز سلطتهم على الدولة على حساب المهنية العسكرية والمؤسسية، وهنا كانت الطامة الكبرى التي قضت على أحلامنا كيمنيين في إيجاد دولة حقيقية وليس مشيخات ومراكز قوى متسلطة ومبعثرة!
- ثامناً: إذاً.. غلبت الدسائس السياسية والطائفية والمناطقية والحزبية على أطراف السلطة، وتم استئصال قوة ضاربة في الجيش كانت تمثل أهم عمود فيه لحماية الدولة والجمهورية، وكل لك بناءً على سوء النوايا، وهواجس السيطرة والمآلات وحب التسلط والإقصاء الذي يمضي فيه اليمنيون إلى اليوم دون أخذ الدروس من التاريخ، ولذلك ظلوا ضعفاء وظلت بلادهم ضعيفة ومتخلفة.
- تاسعاً: قد نجد مواقف وتصرفات لأتباع عبدالرقيب توحي بأنها حزبية ثورية إلى جانب المناطقية، لكن لم نجد ما يوحي عن عبدالرقيب أنه كان بذات المنطق حتى بشهادة خصومه، ومن نفخ في موضوع الطائفية جافى بعضاً من الحقيقة؛ فالأحداث كلها لم تكن طائفية بقدر ما اختلط في أمرها المطالب العادلة والمهنية، والمناطقية، والحزبية، والقلة منها الطائفية؛ فقد كان إلى جانب عبدالرقيب من الزيدية ومن القبلية من شمال الشمال، وكان مع العمري من الشافعية ومن تعز الجنوب، والدليل على ذلك شهادة النعمان ووقوفه مع محمد علي عثمان إلى جانب السلطة ومع العمري واتهام ولوم طرف عبدالرقيب وليس شخص عبدالرقيب، كما فهمنا من رواية النعمان.
- عاشراً: كثير من شهود العيان ومن المعاصرين للأحداث ومن المتابعين يقولون إن الصراع كان حزبياً بين حزب البعث ممثلاً بسلطته الحاكمة العيني والإرياني (هناك من يحسب القاضي الإرياني على البعث وهناك من يبرئه من الحزبية) والخولاني وحمود بيدر ومجاهد أبو شوارب وآخرين، وبين المنتمين لحركة القوميين العرب ومنهم الناصريون طرف عبدالرقيب، وكثير ممن عاصر الأحداث برأ عبدالرقيب من الانتماء إليهم لكنه حسب عليهم؛ لأن معظم فريقه منهم.
- حادي عشر: كيف يكون أحد أطراف الصراع وسيطاً وهو طرف حزب البعث (العيني، مكي، بيدر، أبو شوارب، الدفعي)؟!
وبينما يقول الإرياني والأحمر إن الحسم كان من طرف قبيلة حاشد ضد طرف عبدالرقيب، يقول المطري: إن الدور الأكبر للواء العاصفة والمدرعات التي كان يقودها علي سيف الخولاني، وهي الألوية التي شكلت من قبل العمري بقيادة الخولاني كرد فعل أساساً على الصاعقة والمظلات والمدفعية لمواجهتها!
ثاني عشر: من يقرأ تناول القاضي الإرياني لموقف عبدالرقيب من بدايته إلى نهايته، يجد تحيزاً كبيراً ضد الرجل، ويجد الشحناء الكبيرة والغيظ تجاهه ويحمله كافة المسؤولية في كل صغيرة وكبيرة، دُون كل من دَوّن تلك الأحداث من جميع الأطراف، بل يجد القارئ بين سطورها الكثير من العنت والتحامل على عبدالرقيب سواء بالمصطلحات أو المواقف أو الشهادة ضده، بل والمعبئين التحريضيين عليه، وفي نفس الوقت يجد حتى تضارباً في مواقفه وشهادته بحقه، وهو المعروف بالرزانة والوسطية ورجاحة العقل إلا في الموقف تجاه عبدالرقيب!
أستطيع القول إنه من خلال شهادات ومذكرات الأطراف المعنية عن عبدالرقيب فإنه لم يكن ينوي خوض حرب مباشرة وموسعة مع بقية الأطراف؛ فالأحمر وسنان –كما مر بنا- يحملان العمري مسؤولية تفجير الصراع، وإن كانت إشارات بسيطة زلت بها أقلامهما، وبحسبهم أيضاً والإرياني والعيني، فإن عبدالرقيب كان يحترمهم ويقول إنه لا يريد صراعاً معهم، وإنما يعترض على بعض السياسات العسكرية سواء في عدم الحسم الثوري أو التعيينات أو تداخل الصلاحيات، كما هو حادثة السفينة مثلاً، أو الميول والمحاباة كما ذكرنا في توزيع الأسلحة وتجنيد من أطراف الشمال وإهمال لأطراف الجنوب ومنع توزيع الأسلحة عليهم وعلى الوحدات العسكرية.
فقد شهدت بنفسي حوادث حدثت لمواقف مشابهة تماماً لهذه الحادثة في فترة التسعينات أثناء العسكرية، وتكرر بنفس السيناريوهات والمبررات والأطراف.
وكذلك المآلات التي آلت بالجيش والمؤسسة العسكرية بعد ذلك، التي فوتت على اليمن بناء جيش قوي مهني حديث كبقية الجيوش المهنية في العالم؛ فما بني من جيش بعد هذ الأحداث فهو ليس مهنياً ولا على أساس الحداثة والمؤسساتية، وإنما خليط من المقاومة الشعبية والعسكرية المسلحة، حاله كحال مؤسسة اليتيم التي ينتظر أفرادها معاشات الضمان الاجتماعي تأتي إليهم نهاية كل شهر لا أكثر، والدليل هو انسحابه أمام الإمامة الجديدة، وانقسم بحسب الولاءات العشائرية والمناطقية والمذهبية، وهكذا أضاع الدولة، ونفس الأمر يكرر مع الجيش الذي يتم بناؤه اليوم في مواجهة الإمامة الجديدة.
...يتبع