أحمد سعدان شيخ برأسين!
قبيل منتصف الليل يرمي الشيخ أحمد سعدان عصارة القات من فمه ثم يشرد بعيدا، ويبدأ بنتف ما بقي من شعر لحيته.!
يغادر مجلسه وهو يسعل من أثر المداعة النرجيلة التي أدمن تدخينها.
يصعد التبة التي بجوار منزله، يداعب وجهه الهواء البارد، على ضوء القمر ينظر إلى مزارعه التي تحتل معظم الوادي.
لقد حفر البئر وأشترى المولد وزرع مختلف الخضار والفواكه، ثم استقدم مجموعة من المهمشين " الأخدام " كمزارعين، لكنهم بدلا من خدمته صاروا يعطونه القليل ويستأثرون بالكثير لهم.!
أطلق تنهيدة تنم عن حزنه الكبير، أقاربه طامعون في أملاكه، وأولاده بعيدون عنه، يدرسون في المدينة ولا يأتون إلا لفترة محدودة ثم يذهبون، والمشاكل في بلاده لا تنتهي، ولا يوجد غيره من يحلها، ولا وقت لديه لمراقبة ما يحدث في مزارعه.
وجعل يحدث نفسه:
ــ سعيد ربوعي الخادم جاء إلينا مع زوجته لا يملك قوت يومه، والآن لديه البقر والغنم وخلايا العسل، يبيع الغنم والعسل والسمن والجبن والدجاج، لقد صرت أنا بنفسي أشتري منه.!
ــ وبدلا من تربية هذه الحيوانات والنحل والدجاج لي يربيها له ولأولاده، وإذا احتجت للحم أشتري منه.!
ــ وحتى عبده قسامي الخادم الذي يعمر لي بوري المداعة صار ثريا ويمتلك الحيوانات، ويبيع الخضار لجيبه ولا يعطيني إلا الفتات.!
ــ عبادي الخادم الذي سلمت له مزارع القات يبيع نصفه للناس ويعطيني ربع المبلغ.!
ــ كلهم هكذا لصوص ينهبوني ويستغلون أرضي، ولابد من طردهم.
يتصاعد غضبه فيعود مسرعا إلى منزله، يأخذ سلاحه الآلي الكلاشينكوف ويعود إلى التبة، يناديهم واحدا واحدا ويبدأ بعتابهم ثم يشتمهم ويطردهم.!
ولا يهدأ غضبه حتى يطلق النار باتجاه منازلهم صارخاً:
ــ لو أشوف بالصباح أي خادم بالوادي فإن دمه دم حنش.
يعود إلى منزله وقد زال غضبه، يتناول العشاء الأخير، ويظل يتسلى بالمكسرات ويشتم الأخدام الذين سرقوا خيرات أرضه.
يلتفت فجأة لزوجته ويعاتبها:
ــ كله منك أنتِ قلت: لازم ندرس العيال يطلعوا دكاترة.
ــ أرسلتهم للدراسة وبقيت وحدي.!
ــ من الذي سيخدمني ويراعي مصالحي غير أولادي؟
ــ نسوان قليلات عقول بس الحق علي أنا.
حين يتمدد على فراشه تدهن مفاصله بزيت الخروع وهي تلتزم الصمت، يظل يعاتبها حتى يغرق في نومه.
*****
في الصباح وبعد أن يتناول إفطاره يغادر إلى الدكة في ظل منزله تسبقه زوجته وتفرش مجلسه، تأتيه بالراديو والقهوة، يستمع للأخبار ويرتشف القهوة، يأتي الفقيه ثم عبد الله مهيوب، ويبدأ الناس بالتوافد.
يخاطب عبد الله مهيوب:
ــ نادي على ربوعي الخادم يقطف لنا كيزان ذرة جهيش، ويجي يشويهم.
ــ ربوعي قد رحل مع أسرته صباح اليوم.
يستغرب الشيخ مما سمعه ويسأله:
ــ رحل؟!
ويضيف:
ــ أين رحل؟ ولماذا؟!
ــ أنت طردته.
يزداد الشيخ استغرابا:
ــ أنا طردته؟!
يكتم الفقيه ضحكته ويغطي وجهه بشاله، فيما ينفجر عبد الله مهيوب ضاحكا وهو يضرب كفا بكف قائلاً:
ــ لا حول ولا قوة إلا بالله.!
ويضيف:
ــ أنت ما تنام يا شيخ إلا بعدما تشتم الأخدام وتطلق النار باتجاه منازلهم.
يسأله الشيخ مستغربا وكأنه قد فقد ذاكرته للتو:
ــ أنت ما تقول؟!
ــ أقول لك: جدي عبده ــ الله يطيل عمره ـ ما يرقد إلا بعدما يأكل قطعة حلوى حيسي كبيرة ويشرب كاس الحليب، وأنت ما ترقد يا شيخ إلا بعدما تشتم الأخدام وتطلق الرصاص عليهم.
يعاود الشيخ سؤاله بجدية:
ــ أمس أنا فعلت هكذا؟!
ــ كل ليلة يا شيخ؟!
ــ ينفجر الجميع بالضحك.
يجامله الفقيه:
ــ أنا ما أنام يا شيخ إلا بعد ما أسمع القوارح، قد ضبطت نفسي عليها.
يضحك الشيخ معهم هذه المرة.
يؤكد له الجميع أنه قد شتم الأخدام فعلا وأطلق الرصاص باتجاههم فلا يكاد يصدق أنه فعل ذلك.!
ينادي الفقيه وبعض الرجال:
ــ هيا الحقوهم قبل ما يرحلوا، واعتذروا لهم.
يغادر الفقيه ومن معه إلى المزرعة فينادي الشيخ ابنته لتأتيه بكتاب " تذكرة داود "، يناول عبد الله مهيوب:
ــ شوف في عشبة تنفع لوجع الحقو والمفاصل؟
يمازحه عبد الله مهيوب:
ــ العلاج تتزوج الثانية.
يبتسم الشيخ ويحذره:
ــ لو سمعتك عمتك محصنة ستخرج لك بصميل تشدخك، ولن نفارع عليك.
يغرق الشيخ في تفكيره ويتخيل الأخدام وهم يغادرون إلى المجهول يبكون، بعد أن تركوا خلفهم كل شيء بعد سنوات طوال من العمل والكدح في المزارع.!
قال لنفسه:
- مساكين يعملون طيلة النهار لخدمتي فأقوم أنا بالليل بشتمهم وطردهم، إنني بلا أخلاق ولا ضمير.
يؤنبه ضميره، يتمنى من قلبه أن يلحقهم الفقيه ومن معه ويعتذرون لهم، وينجحون في إبقائهم.
بعد ساعة يأتي الفقيه ومن معه بالمزارعين.
يصافحون الشيخ ويقبلون رأسه وركبته.
جاء سعيد ربوعي بحزمة كبيرة من كيزان الذرة، وعبادي قطف حزمة قات للشيخ يفذح، فيما شرع قسامي يوقد النار ويشوي الذرة.
وكأن شيئا لم يكن.
بعد أن أكلوا كيزان الذرة بدأ الشيخ يفذح " يمضغ كمية قليلة من القات" ثم أعطى بضعة عيدان للفقيه الذي قال موجها خطابه للمزارعين:
ــ الشيخ مهما قال أو فعل هو أب الجميع فلا تزعلوا منه.
وأضاف:
ــ ما فيش أطيب من الشيخ، حتى لو شتم وهدد ينسى بعد ساعة ويسامحك، ما يحمل بقلبه على أحد.!
وسارع بقية الرجال إلى مدح الشيخ.
قبيل الظهر أشار الشيخ للمزارعين أن يأتوه بذبيحه وخضار للغداء، وقات وجبن وعسل.
في المقيل توقف الشيخ عن التدخين من المداعة وفاجأ الناس بقوله:
ــ هل تصدقوا أن محكمة بأستراليا قدمت خروف للمحاكمة؟!
فغر الجميع أفواههم وسألوه:
ــ خروف في المحكمة؟ ما هذا الخبر يا شيخ؟
وبدأ الشيخ يشرح لهم:
ــ قالت إذاعة لندن أن هذا الخروف ركل برجله مسدساً كان قد وضعه صاحب الخروف على دكة، فسقط المسدس وأطلق رصاصة أصابت امرأة كانت تمر جوار البيت، فرفعت الدعوى ضد الخروف، وتحمل صاحبه تكاليف علاج المرأة وتعويضها بمبلغ كبير.!
قبيل منتصف الليل وبعد أن رمى الشيخ بالقات شرد كعادته وبدأ يفكر ويحدث نفسه:
ــ هؤلاء الأخدام يضحكون علي ببعض الفتات والخير كله لهم.!
ــ يعلم الله كم مقدار ثرواتهم؟!
ــ أكيد معهم آلاف مؤلفة وأنا شيخ على الفاضي.
غلي الدم في عروقه وتصاعد غضبه، هب واقفاً، أخذ سلاحه الآلي ثم صعد إلى التبة، شتم الأخدام ووبخهم وطردهم صارخاً:
ــ لو أشوف بالصباح أي خادم بالوادي فإن دمه دم حنش.
ثم عاد وقد هدأ وتعشى وعاتب زوجته ثم نام.!
*قصة قصيرة