السيول نعمة ومشكلة اليمن الأزلية
السيول نعمة يمن بها الله -سبحانه وتعالى- على اليمنيين في كل عصر ومكان؛ فقد حبا الله اليمن موقعاً جغرافياً مميزاً، يعتمد على الزراعة، وزراعته من أفضل الزراعة الإقليمية إلى درجة أن وصف الله بلاد اليمن بـ(الآية)، ووصف زراعتهم بـ(الجنان)، وهذه الزراعة تعتمد على مياه الأمطار الموسمية الصيفية والخريفية؛ إذ لا يوجد في اليمن أنهار كبيرة ولا دائمة كأنهار النيل والفرات ودجلة وغيرها؛ بل هي أنهار صغيرة وموسمية أيضاً.
تمتاز اليمن بأنها جبلية، وجبالها شاهقة ووعرة أيضاً، إلى درجة أن بعض جبالها تعتبر أعلى قمماً في الجزيرة العربية كلها، وقد وردت في أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- كمضرب للأمثلة، والإشادة بها.
هذه الجبال مثلت أهم مبعث للمياه وتساقط الأنهار والسيول وتُرى أثناء ذلك التساقط وكأنها شرايين وخطوط بيضاء تزين جسد الأرض اليمنية وتحمل كميات كبيرة من الطمي والمعادن والأملاح الجبلية التي تزيد التربة خصوبة وانتعاشاً، كما يقول بعض علماء الزراعة.
في الدول الحضارية اليمنية استغلت تلك الدول، وكذلك القبائل، وحتى الأسر والأفراد مساقط تلك الجبال ومسناتها وثغورها وقاموا بإنشاء سدود وقنوات تخزن وتُجري الأنهار الاصطناعية إلى أماكن زراعية بعيدة لري المزروعات والاستخدام المنزلي، حتى عرفت الحضارة اليمنية بحضارة السدود.
بنيت مئات السدود والبرك والمآجل والكرفانات والقنوات والأفلاج التاريخية حتى تخلدت تلك السدود في النصوص والمصادر الدينية المختلفة، وكذلك النصوص الشعرية القديمة، وكان أشهرها على الإطلاق سد مارب التاريخي العظيم الذي عد أكبر السدود اليمنية على الإطلاق، وتم الإشارة إليه في القرآن الكريم.
وهناك أبيات منسوبة للملك أسعد الكامل الحميري، يتحدث فيها عن سدود اليمن، قال فيها:
ورَيْدَانُ قصري في ظَفَار ومنزلي
بها أسَّ جدي دورَنا والمناهلا
على الجنَّةِ الخضراءِ من أرضِ يحصبٍ
ثمانونَ سدًّا تقذفُ الماءَ سائلا
مآثرُنا في الأرضِ تصدقُ قولَنا إذا ما طلبْنا شاهدًا أو دلائلا
ومن هذه السدود: "قصعان" و"ربوان"، وهو سدّ قتاب( )، وشحران، وطمحان، وسد عباد، وسد لحج، وهو سد عرايس، وسد سحر، وسد ذي شمال، وسد ذي رعين، وسد نقاطة، وسد نضار وهران، وسد الشعباني، وسد النواسي، وسد الخانق بصعدة، وسد ريعان، وسد سيان، وسد شبام، وسد دعان وغيرها. وذكر "الهمداني" أن في مخلاف "يحضب العلو" [يحصب يريم] ثمانين سداً( ).
وسد "الخانق" سد ينسب إلى "نوال بن عتيك" مولى سيف بن ذي يزن، ومظهره في "الخنفرين" من رحبان. وقد خرّبه "ابراهيم بن موسى العلوي الجزار( )" بعد هدم صعدة( ).
وهناك آثار سدود جاهلية أخرى أقيمت في مواضع متعددة من العربية الجنوبية. منها آثار سد قتباني أقيم عند موضع "هجر بن حميد" بوادي بيحان. وقد درسه ووصفه "بوون"، كان يسقي بمائه منطقة واسعة من أرض مملكة قتبان( ).
وآثار سد "مرخة"، وآثار سد آخر أقيم عند "شبوة"، وسد آخر عند "الحريضة"، تفرعت منه شبكة من القنوات والمجاري لإيصال الماء إلى المزارع والأرضين الخصبة التي تعيش عليها( ).
و"استبد سدّ مارب من بين سائر سدود جزيرة العرب بالإسم والذكر، ونال مكانة كبيرة في كتب التفسير والسير والأخبار. ولذكر القرآن لـ"سيل العرم"، نصيب كبير في توجه اًنظار علماء التفسير واللغة والأخبار اليه، وفي خلود اسمه إلى الآن. وقد روى أهل الأخبار قصصاً عنه وعن كيفية خرابه، وتشتت شمل سبأ بسببه، ونزوحهم إلى مواضع بعيدة عن ديارهم القديمة.
ويعدّ سدّ "مارب" من أهم السدود التي أقيمت في اليمن وفي جزيرة العرب، وقد بني من أجل السيطرة على مياه الأمطار والسيول التي تتدفق منها لوقاية المزارع والقرى منها، وللاحتفاظ بهذه السيول للاستفادة منها إذا انقطعت الأمطار، وإرواء مناطق واسعة من الأرضين، جيدة التربة، خصبة مثمرة"( ).
لا زلت أتذكر، وأنا في الصف الثالث الابتدائي مقولة لأستاذي المصري، وهو يصف هذا الأمر بقوله: في اليمن مساقط مياه وشلالات كبيرة لو حسن استغلالها من قبل الدولة لأغنت اليمن والمنطقة بالكهرباء المجانية والأقل تكلفة على الإطلاق، فنحن في مصر نولد الكهرباء من السد العالي لمصر كلها.
تنقصنا في اليمن القيادة المخلصة والحكيمة في التاريخ الحديث التي لم تنتبه إلى هذه الأمور، وتحويل كل هذه النعمة إلى نعم متعددة في مختلف المجالات.
ومع كل هذه الإيجابيات تظل مشكلة السيول مشكلة مؤرقة ومهددة لليمنيين على الدوام، باستطاعة الإنسان اليمني تجنبها والحد منها بالرؤية الصحيحة والفعل التعاوني المثمر، وبقيادة الدولة المخلصة بما تمتلك من إمكانيات وإن كانت بسيطة أو شحيحة.
تمثلت هذه المشاكل في جرف بيوت المواطنين الذين يبنون بالقرب من مساقط السيول، وهي مشكلة في الأساس يتحملها المواطن نفسه الذي لم يبتعد عن مجاري السيول باعتبارها من الآيات البينات.
وتتمثل المشكلة الأخرى بجرف المزارع بالسيول وبسبب عدم تصريفها التصريف الصحيح، مع أن السيول أكبر مخطِّط يخطط للإنسان مساره للعمل على تجنبه، إلا أنه أحياناً تدخل اليمن في منخفض جوي كبير يحدث سيولاً وفيضانات كبيرة.
في السنوات الأخيرة، وفي الأيام الأخيرة، تعرضت اليمن إلى هذه السيول والفيضانات في مارب وتهامة وتعز وصنعاء، وغيرها، وكانت مأساة ملحان في المحويت أحدثها، وهي مأساة كبيرة، لم تستطع سدودها الصمود في وجه السيول.
البناء غير المتقن والتنفيذ غير الأمين لبناء السدود اليوم بسبب الرشوة والمحسوبية وقلة الدين والأمانة، وعدم كفاءة المهندسين أصحاب الخبرة والضمير، جعل من السدود المبنية حديثاً سدوداً متهالكة لا تقوى على الصمود، وليس لها مصارف تخفض من ضغط السيول عليها، رغم الأموال الطائلة التي أنفقت عليها، دون التنبه إلى أنها قد تتحول من إنجاز إيجابي للمواطنين إلى مأساة كبيرة عليهم!
أتخيل لو تم استغلال تلك السيول في بناء سدود ومصدات مختلفة في كل مكان سيدعم بعضها بعضاً وسيتخفف الضغط عليها مجتمعة، وكذلك لو تم استثمارها الاستثمار الأمثل فإنها ستكون من روافد الدخل القومي.
بناء السدود في المساقط الكبيرة والشاهقة كان خطأ فادحاً لأنها لا تقوى على اندفاعة السيول التي لا يصدها صاد مهما كانت عوامل القوة.
المتأمل لسد مارب التاريخي فإن مخططه كان ذكياً للغاية؛ صحيح أنه كان عند أهم مسناة وميزاب لليمن الأعلى بشكل عام إلا أن منشئه تجنب بناءه عند ثغرة ومساقط السيل مباشرة؛ فقد بناه بالقرب من المكان على جانبي طريق السيل حتى يتمكن من الصمود، ولذلك صمد آلاف السنين، بعكس السدود الأخرى التي بنيت في مساقط السيول، وربما كان للتعديلات المستمرة عليه دروساً في تغيير مكانه كل مرة.
في الفترة القليلة الماضية كانت اليمن تصنف من أكثر دول العالم شحة في المياه، ولذلك عمد اليمنيون إلى بناء وإنشاء الخزانات الأرضية والسدود المختلفة حتى صارت كثير من المناطق في اكتفاء ذاتي من المياه وحلت هذه المشكلة، قبل أن تتحول اليمن إلى مدار الطقس في خط الاستواء حديثاً، ومثلت السنوات الأخيرة مدراراً في الأمطار التي فرح بها اليمنيون وأسعدوا بها كل السعادة رغم أنها تحولت إلى مأساة لبعضهم!
القرآن الكريم وسيول اليمن
زراعة اليمن ومشكلة السيول في اليمن قديمة جديدة، وقد خلدها الله في القرآن الكريم كواحدة من وسائل العذاب التي يرسلها الله على القوم المعرضين عن منهجه، وقد خلدها في موضعين وسورتين؛ سورة سبأ وسورة الأحقاف.
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}سبأ15
{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ}سبأ16، ونسب السيل للسد الذي يسميه اليمنيون العرم.
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}الأحقاف24
لقد كانت حادثة سيل العرم التي دونها الله في القرآن الكريم حدثاً كبيراً وزلزالاً عظيماً من أهم حوادث التاريخ التي كان لها صدىً بين الأمم المختلفة، ولذلك يتم الاعتبار منها في كل زمن.
تبقى النقطة الأهم هي وجود الدولة وتقويتها وتكاتف الشعب معها للعمل الجماعي على استثمار هذه السيول الاستثمار الأمثل وتحويلها إلى مصدر دخل قومي للبلاد، كما فعلت دول أخرى ماطرة معظم العام حولت هذه السيول إلى أهم رافد سياحي وتوليد كهربائي، وإنتاج زراعي يصدر منتوجاتها إلى العالم.