عبثية ومداخل البخيتي في التشكيك بالقرآن الكريم
وجد كثير من السلبيين، الذين يسيرون في طريق الإلحاد أو العبثية، في تحدي علي البخيتي للمناظرة في تشكيكه بالقرآن الكريم، فرصة سانحة للنيل من الملتزمين دينياً، أو المفكرين فكرياً، بأنهم عاجزون عن الرد وغير قادرين على المناظرة، وحينما انبرى كثير من المثقفين للرد عليه كمحمد المياحي، أو المفكر عصام القيسي، أو أخيه الدكتور عبدالله القيسي مؤخراً، يذهب بعض المتعاطفين مع الأخيرين بالإشفاق من عدم القدرة على البخيتي في أن ما يعرضه حجة له لا يستطيع أحد دمغها!
شبهات البخيتي قديمة وليست جديدة، وقد رد عليها كثير من العلماء عبر التاريخ، وفي كل جيل يأتي من يجددها.
من ناحيتي لا أجد المشكلة في المناظرة وأفكارها؛ بل المشكلة في أن البخيتي ليس باحثاً عن الحقيقة لتصحيحها أو ضالاً ليهتدي، فقط هو يثير جدلاً من أجل الإثارة والمكارحة والمراء والجدل البيزنطي، دون أفق ولا فائدة، وارضاءً لمشغليه، وأعتقد جازماً لو أن الدكتور عبدالله القيسي أعطاه الشمس في يمينه والقمر في يساره كحجة دامغة لشبهاته فلن يقتنع؛ لأنه لا تهمه الحقيقة من عدمها.
تَقَوُّل البخيتي هذا، في حق القرآن الكريم، أمضى صناديد قريش في بحثه أكثر من عشر سنين؛ مثل لهم هماً مؤرقاً أقض مضاجعهم ليل نهار، حتى إن بعضهم قتل في سبيل عناده ضد القرآن الكريم، وقد كانوا أفصح العرب، كما قيل بحقهم، وكانوا كلما جاؤوا بشبهة نكسوا على رؤوسهم؛ وقال عنه الوليد بن المغيرة: ليس بساحر، ولا كاهن، ولا شاعر، "والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه"، حتى عجزوا عن الوصف. فرد الله -سبحانه وتعالى- عليهم رداً داحضاً {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ}الحاقة44 {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ}الحاقة45 {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}الحاقة46 {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}الحاقة47. ثم يبرئ الله ساحة نبيه {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}العنكبوت48.
ثم تحداهم، إذا كان هذا قول البشر، أن يأتوا بسورة من مثله {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}البقرة23.. {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}يونس38.. {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}الإسراء88.. {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ}الطور34.. {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ}الحاقة41 {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}الحاقة42.. حتى إن هذه الأخيرات دفعت عمر بن الخطاب للإسلام، كما في بعض الروايات.
أكثر ما يطرح البخيتي من الطعن في القرآن أنه نسب ألفاظه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، واعتبر النبي مفكراً أخذ ألفاظ القرآن من كتب سماوية سابقة، وكرر المآخذ على بعض الألفاظ مثل "سندس" و"إستبرق" وغيرها، وهي التي قال عنها العلماء ذات أصول فارسية، واعتبر أنه أتى بما لم تستطعه الأوائل، وأنه آية زمانه!
ومع أن القرآن هو الكتاب الخاتم أيضاً، وجاء مصدقاً للكتب السماوية السابقة وموضحاً لها، فإنه بالضرورة سيحمل ألفاظاً مفهومة لأصحاب تلك الكتب لفهمها وتبيانها، ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ ( )، أي مشتملاً عليها ومبيناً لها وسيدها؛ لأنه الجامع لكل رسالات تلك الكتب ومتمم لها. واللفظ "مصدقاً" كأنه يعني الختم والمقر عليها، كما هو حاله من صفته ومعانيه ورسائله التي جاءت بها تلك الكتب من التوحيد والعبادة والقيم والحرية والعدالة والمساواة، كما قال الله عن عيسى لما أرسله من بعد موسى إلى بني إسرائيل: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ ( )، مصدقاً أي (معززاً).
ولا ضير أن ترد ألفاظ دينية من العبرية أو من الكتب السابقة في لغة القرآن الكريم، ذلك أن الرسالات السماوية كلها رسالة واحدة، تحمل مضمونات متشابهة من حيث الأصول العبادية أو المعاني والدلالات والألفاظ مثل: نبي، ملَك، رسول، وحي، الله، عبادة، دنيا، آخرة، ودين، وكذلك لقرب واحتكاكات الديانات والسلالات ومواطنها المتداخلة أحياناً في بقعة جغرافية واحدة.
كما إن الألفاظ الدينية في القرآن الكريم لم يقتصر أخذها عن العبرية والتوراة بفعل التثاقف وتأثير المحيط واحتكاك الثقافات.. إذ إن هناك نقوشاً من لغة اليمن ذكرت ألفاظاً دينية متعددة، منها: الحج =الزيارة، والكفارة، والأضحية، والنذر، والتوبة، والذنب، والحوب =الذنب/الإثم، والخطيئة، والبِيَعْ = أماكن عبادة الصابئة، والبيوت/ الهياكل =أماكن عبادة الديانات القديمة لليمنيين، المسجد (مكان عبادة) ، إصر = عهد، والبرهان=الحجة، والصدقة=عمل خيري، والزكاة=العُشر، والدعاء، والتبرك، والغيث، والغل، والغابر=الهالك، والغزوة، والفيء، والشعب، والكعبة، والحبر، والملائكة، والنبي، وهذا الأخير كثير الورود في لغة النقوش اليمنية ولم يقتصر على العبرية...إلخ.
القرآن الكريم كتاب آخر الزمان، وآخر الكتب السماوية وجامعاً للغة العالمين، وقد ناقشت هذا الأمر في كتابي (اللغة اليمنية في القرآن الكريم) من لغة النقوش اليمنية وكثير من اللغات الأخرى القديمة؛ كون القرآن رسالة للعالمين ولا بد أن يحتوي على بعض الكلمات المعربة من بعض اللغات السابقة كسندس واستبرق وغيرها من الألفاظ التي يطرحها العلماء، ويدخل منها المتشككون إلى الطعن بالقرآن الكريم، على اعتبار أن كل تركيب القرآن عربية خالصة، وهو الأغلب، وإن حوى بعض الألفاظ الأخرى ذوات الأصول السابقة فقد عربت من دهور.
فقول بعض العلماء، وبعض المتشككين أنه يصادم الآية {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}الشعراء195، فقد حمل على الأغلب الأعم، وليس على البعض الأخص.
أين المشكلة؟
المشكلة عند اللغويين الذين ضيقوا مقاييس اللغة وحصروا مواطن الاستشهاد اللغوي عند بعض القبائل، وتعصبوا لها، وأخرجوا بعض الدول والحضارات واللغات والقبائل عن الاستشهاد اللغوي، فوقعوا في أزمة، وقزموا عالمية القرآن الكريم لغة وشريعة وإعجازاً، وهي المداخل التي نفذ منها ودخل منها المتشككون. فقد وضع بعض علماء اللغة وأئمتها مقاييس للأخذ بها وحصروا مصادرها من البادية العربية من قبائل بعينها كتميم وقيس وقريش وطيء وكنانة وهذيل...إلخ. ولم يأخذوا عن غيرهم، وقالوا: "ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.. وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من حزام لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وأياد لمجاورتهم أهل بلاد الشام وأكثرهم نصارى يتكلمون بالعبرانية، ولا من تغلب اليمن فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين بدؤوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم"( ).
هنا كانت الكارثة والنتيجة التي ترتب عليها مثل هذه المداخل، ومن يرد الاطلاع أكثر فليعد إلى كتابي (اللغة اليمنية في القرآن الكريم).
لم يكن البخيتي عالماً لغوياً ولا باحثاً حقيقياً في لغة القرآن الكريم بحيث يصدم في بعض تراكيب ألفاظه، ولكن من باب التسويق الذاتي لمشغليه، والمراء الذي لا طائل منه؛ فهو عنصر مخابراتي يشتغل لأكثر من جهة، ويشغل معه الآخرين وهذا المطلوب منه عمله كوظيفة استخباراتية مر فيها الكثيرون قبله وسيمرون منها بعده؛ فهو ليس باحثاً ليهتدي وإنما مشكك ليعتدي، وهذا عمله وديدنه، يقضي فراغاً وخواءً في وقته وروحه وعقله وتخبطاً في منهجه وحياته.