الأحد 1 ديسمبر 2024 10:13 مـ 30 جمادى أول 1446 هـ
االمشهد اليمني
Embedded Image
×

من قاعة المعمل إلى ساحة الوعظ.. فشل أم نجاح؟!

السبت 25 مايو 2024 10:41 صـ 18 ذو القعدة 1445 هـ

أتساءل: ما الذي يجعل شابًا مثقفًا، متميزًا في تخصُّصِه العلمي، ويجيد أكثر من لغة يتحول من رجل علمي، معول عليه خدمة وطنه وأمته من خلال تخصصه النادر إلى واعظ ديني؟!!

هل ينقصنا الوعاظ؟ هل تنقصنا الكنائس والكرازت؟ هل ينقصنا الأحبار والرهبان؟!
في بلادنا اقلب حجرًا تجد واعظا، ومن خلفه ألف قطيع يصفق له.
اقلب حجرًا تجد محدثا وفقيها يفتي في شعر المرأة والبورصات والتأمين والصّلاة على متن الطائرة في الجو، وفي الاستنساخ، والرقميات المعاصرة والذكاء الاصطناعي، ويتحدث عن مخاطر الرعي الجائر في سهوب الدانوب، ومشكلة التهريب في المكسيك، واليوجا الهنديّة، وعن والأوزون والأمازون أيضا. ولا يترك شاردة أو واردة إلا ويحشر أنفه فيها..!
لدينا فائضٌ من الفقهاء والمحدثين والوعاظ ورجال الدين، الحقيقيين والمزيفين، الصادقين والكاذبين، الجاهلين والمتعلمين، في الوقت الذي نعيشُ فيه أزمة مستفحلة في العلوم التطبيقية والرقمية، وفي الطب والهندسة، وفيما ينفع الناس بشكل عام. ومع هذا ينبري لنا شابٌ مثقفٌ بلغة مرتبة ومنطق فصيح، على طريقة عمرو خالد، تاركا تخصصه العلمي، مهرولا بسرعة نحو سوقِ الوعظ، وكأنما ينقصنا هو واعظ "modern"..!
لطالما كنت ــ ولا زلت ــ مُنبهرًا بهذا الشاب، بتميزه العلمي، بلباقته في الحديث، بثقافته؛ معولا عليه أن ينفع الناس في مجاله، وأن يضيف للحياة شيئًا جديدًا، لكنه خيب أملي للأسف الشديد بتحوله من قاعات المعامل والتجارب العلمية إلى قاعات الوعظ والخطابة..!
لدينا غَبَشٌ في الفكرِ وتقديرٌ خاطئٌ لمفهوم الدين والتدين حتى بين النخبة، أو من نعتبرهم من النخبة. ولا أدري ما سر هذا التحول؟ هل البحث عن شهرة أكثر؟! أظن أن شهرته السابقة فيها الكفاية، خاصة بين الأوساط النخبوية؛ أما تصفيق القطيع لأي نجم صاعد فو الله إنها الكارثة! احترس كثيرًا من تصفيق القطيع.
أتذكرُ هنا مقالة كتبها المثقف المستنير الأستاذ عبدالله الدهمشي قبل أكثر من 25 سنة في صحيفة الجمهورية الثقافية بعنوان: "ظاهرة المهندسين الإسلاميين" أشار فيها إلى الشباب الذين التحقوا في الجامعات بتخصصاتٍ علميّة، كالكيماء والفيزياء والحاسوب والهندسة وإدارة الأعمال، وحين تخرجوا منها تركوا تخصصاتهم واشتغلوا بالوعظ والخطابة والشؤون الدينية بشكل عام، وكأن الهندسة أو الطب مسائل ثانوية لا تحتاجها الأمة، تحتاج فقط وعاظا وخطباء ومرشدين!!
هذه ظاهرة فعلا في الأوساط الإسلاميّة، تعكس ــ فيما تعكس ــ خللا في التفكير وسوءا في التقدير وترتيب الأولويات..! وتعكسُ رغبة جامحة في السعي نحو الشهرة التي تجلب الحظ والمال.
المجتمع اليوم لا يحتاج واعظا، إنما يحتاج مهندسا.
لا يحتاج خطيبا، إنما يحتاج طبيبا.
لا يحتاج مرشدا دينيا، إنما يحتاج تقنيا علميا.
أمتنا الإسلامية محشوة بالوعظ ليلا ونهارا، ومحشوة بالتخلف أيضا في نفس الوقت..!
الوعظ الديني لا يبني أمة ولا يطور مجتمعًا، يبيع لهم الوهم فقط..!
تاريخيًا انتشر الوعظ وراجت سوقه بكثرة في عصور الانحطاط الحضاري، لا في تاريخ صدر الإسلام؛ حتى لدى أتباع يسوع، الوعظ الديني عندهم ارتبط بالهروب من الواقع إلى غيبوبة عقلية بعد تعرضهم للتنكيل الروماني، إلى حد أن صار حرفة عند البعض، والحال من بعضه اليوم أيضا للأسف.
وعودة إلى هذا الشاب، أقول له: "ارجع لحولك"، وانشغل بما يفيد الأمة، وتأكد لن تزيد قلامة ظفر على ما سبقك إليه ملايين الواعظين من قبلك، وإن توهمت ذلك.
تستطيع أن تفيد الأمة بتخصصك العلمي أضعافا مضاعفة مما تتخيل أنك ستفيدها بالوعظ..! الوعظ مهنة من لا مهنة له، ولا يليقُ بك أن تحشرَ نفسك في سوق البطالة، وبضاعتك ثمينة. الوطن ينتظرك مهندسا، ولا ينتظرك واعظا.
الإسلام العملي أولى من الإسلام النظري. الأخير يجيده كل الناس، بلا استثناء، "الكرّازون" كثر، ومن كل الأديان، بمن فيهم الأميون، يعظون وينصحون، حتى السياسيين أيضا، يعظِون و "يعضُّون" في نفس الوقت..! عبدالملك الحوثي نفسه اليوم يعظ عباد الله ويقتل خلق الله. الخامنئي في طهران يعظ، حسن نصر الله يعظ. الحبيب الجفري يعظ.. إلخ، قائمة طويلة، لن تنتهي..!
بقدر ما للوعظ الديني من فوائد أحيانا، له كذلك مخاطره الكبيرة من حيث لا ندري، خاصة على المدى البعيد؛ لأنه في غالبه بيع للوهم لا أكثر. هذا ما تنبهت له البروتستانتية المعاصرة التي أحيت العقل، متجهة نحو العقلانية، وتقديس العمل، رافعة شعار: أنت قريب من الإله بقدر ما في جيبك من المال"، فنهضت من ثم أوروبا المعاصرة على تعاليم البروتستانتية بعد أن نامت طويلا في أوهام الكاثوليكية والأرثوذكسية التي مثلت أفيونا لها..