وثائقي الـ‘‘بي بي سي’’ عن الإمارات.. وما رأيته في عدن!
تتكشَّف خيوط الصراع الدائر في اليمن منذ تسع سنوات، شيئًا فشيئًا، خفاياها وأهدافها وعبث الدول الإقليمية بها؛ في بلد مُنهك تتقاسمه الحروب الداخلية والأطماع الخارجية، ويدفع سكانه ثمن "لعنة الجغرافيا" التي حوَّلته إلى بلد مُستباح في ظل هشاشة الدولة وأنظمة الحكم المتعاقبة، ويعاني من أكبر أزمة إنسانية، حسب تصريحات مسئولي الأمم المتحدة.
ولعلَّ أبرز هذه الخفايا ما كشفه الفيلم الإستقصائي الذي بثَّته قناة "بي. بي. سي." العربية، أمس الأول، وكشف النقاب عن دور دولة الإمارات العربية المتَّحدة في تمويل مرتزقة أجانب (يتزعَّمهم شخص إسرائيلي)، للاستعانة بهم في تنفيذ حملة اغتيالات طالت قادة سياسيِّين ونشطاء مؤثرين وخطباء دعويين في محافظة عدن. وكانت حملة الاغتيالات تلك قد بلغت ذروتها عامي 2016م و2017م، وأحدثت ضجَّة في الأوساط اليمنية. وكان موقع "بازفيد نيوز" الأمريكي قد سبق في نشر تقرير مطول، في شهر أكتوبر 2018م، أورد فيه معلومات عن تورُّط الإمارات في التعاقد مع شركة "سبير" التي تضم مرتزقة أمريكيين قادوا حملة الاغتيالات في اليمن.
عرض التحقيق الاستقصائي لقطات من لحظات محاولة اقتحام مبنى مكتب عضو مجلس النواب اليمني رئيس فرع حزب "الإصلاح" بمحافظة عدن، إنصاف مايو، تمهيدًا لتصفيته. كان المكتب الواقع بمنطقة "كريتر" العتيقة بمثابة ملتقى للصحفيين والإعلاميين من مختلف المشارب والانتماءات. وكان يبعد بمسافة حوالي 5 كيلومتر عن قصر "معاشيق" (مقرُّ الحكومة اليمنية في عدن). ومع مشاهدتي لتلك اللَّقطات جالت في ذاكرتي تفاصيل المشهد العصيب الذي كنَّا وعدد من الزملاء الصحفيين أحد فصوله؛ فقد حدث الهجوم المرعب، والذي نفذه أولئك المرتزقة، ونحن على سطح الطابق العلوي للمبنى المؤلَّف من طابقين، وشاهدنا اقتراب العربات الإماراتية المصفحة وبداخلها المرتزقة الأجانب. حينها كان إنصاف مايو قد غادر المبنى قبل دقائق من وصول العربات العسكرية، عقب بلاغ وصله من سائقه يُخبره بتجمُّع مريب للمسلحين والأطقم العسكرية المدججة بأنواع العتاد، ويشير عليه بمغادرة المكان.
لم نتمكَّن نحن من مغادرة المبنى بعد تطويقه بالأطقم العسكرية، وكأنَّه ثكنة عسكرية، وأصبنا بحالة من الهلع والخوف نتيجة تدمير البوابة الرئيسة بانفجار ضخم. وطرَح بعض الزملاء فكرة القفز إلى سطح بيت مجاور لصيق بمبنى المكتب. وفي حين كان بعضنا يتأهَّب للقفز للنجاة بنفسه كانت النيران تشتعل خارج المبنى، وصراخ الناس يتعالى. وفي غضون دقائق معدودة، بدأت الأطقم والمسلحون بالانسحاب فجأة، بعد تحقُّقهم من مغادرة عضو مجلس النوَّاب "إنصاف مايو".
تكلَّلت العملية بالفشل، لكنها تركت ندوبًا وآثارًا نفسية داخلنا لا يمحوها الزمن. فلأول مرَّة نشاهد بلادنا تستباح من قبل فرق مرتزقة يستقدمهم "الأشقاء" لقتلنا! وفي وضح النهار!
في سبتمبر 2015م، وصلتُ برفقة زملاء صحفيين إلى مدينة عدن، حيث اضطررنا لمغادرة العاصمة صنعاء هربًا مِن بطش جماعة الحوثي المسلَّحة والمتمردة على الدولة، وذلك عقب اجتياحها العاصمة صنعاء وإسقاط الدولة، فقد باشرت مليشيا الحوثي ملاحقتنا. كان اسمي مدرجًا مع عشرات الصحفيين في "القائمة السوداء" التي وضعتها الجماعة للإعلاميين المستهدفين من قبلها. وتمكَّنت بالفعل من اختطاف (10) مِن الزملاء الصحفيين، فكانت عدن -حينها- تنفض غبار الحرب بعد مقاومة شرسة أجبرت مليشيا الحوثي وقوَّات الرئيس الأسبق، علي عبدالله صالح، المتحالف مع الجماعة حينها، على الانسحاب؛ فرأينا فيها بديلًا آمناً للعيش والعمل الإعلامي انطلاقًا منها.
غير أن عدن -التي أعلنها الرئيس السابق عبدربه منصور هادي عاصمة مؤقتة لليمن- لم تلبث أن شهدت منعطفًا جديدًا للأحداث. وكنَّا شاهدين على حجم تلك المنعطفات الخطيرة، والتي أودت بأمن ومستقبل هذه المدينة المسالمة، ودفعت بها إلى منحدر سحيق مِن الفوضى والخوف. هذا الانهيار في أوضاع عدن أصاب حلم اليمنيين في مقتل، فقد كانوا يتطلَّعون إلى أن تغدو عاصمتهم المؤقَّتة بديلًا آمنا لهم، تفتح ذراعيها للنماء والنهوض، وتقدم نموذجًا للتغيير المنشود عوضًا عن صنعاء التي باتت أسيرة حكم الأئمة الجدد، المدعومين مِن إيران، والمتحالفين مع قوى الشر في المنطقة.
بالعودة إلى الحالة المأساويَّة التي شهدتها عدن طيلة ثمان سنوات، إثر سيطرة القوات الإماراتية عليها، وتشكيل التحالف لأدواته الأمنية والعسكرية البديلة عن أجهزة الدولة، والتي عملت على تقويض سلطة الدولة وحضورها. فتحولت عدن مسرحًا للمليشيا المسلحة الخارجة على القانون والمتمردة على الدولة، والمهددة للحمة المجتمع اليمني ووحدة دولته ووطنه، إذ توافقت طموحاتها في الإنفصال مع أطماع خارجية لتمزيق وتقسيم اليمن.
وما كشفه الفيلم الوثائقي "الاغتيالات السياسية في عدن"، والذي أعدَّته الصحفية اليمنية نوال المقحفي، وعرضته قناة "بي. بي. سي." البريطانية، يمثِّل أحد فصول التآمر الذي انتهجته الإمارات في اليمن، وأحد حلقات الرعب التي استهدفت اغتيال الحياة السياسية، وإفراغ المجتمع مِن الشخصيات الوازنة والمؤثرة، عبر استئجار مرتزقة أجانب لتنفيذ عمليات اغتيال آثمة.
كانت قيادات ونشطاء حزب "الإصلاح" على رأس قائمة الاستهداف. ولا أزال أتذكَّر أحد قيادات المقاومة في عدن، نُقِل إلى مدينة أبو ظبي بالإمارات للعلاج، ضمن دفعة جرحى أصيبوا في المعارك الأولى للدفاع عن عدن، منتصف عام 2015م، بعد اجتياحها من مليشيا جماعة الحوثي والقوات الموالية لـ"صالح"، قضى شهرًا لتلقي العلاج في أحد المشافي هناك نتيجة إصابته الخطيرة في ظهره، حيث جاءه ضباط إماراتيون ونقلوه إلى مبنى المخابرات، وتعرَض للتحقيق لساعات طويلة رغم إصابته، ثم باشروا بتعذيبه طيلة شهر كامل! هذا القيادي الذي التقيته أثناء إعداد عمل توثيقي أفصح لي أن الإماراتيين، الذين باشروا التحقيق معه وتعذيبه، قالوا له بالحرف الواحد: "معركتنا ليست مع الحوثيين، لأنهم سيغادرون عدن قريبًا، وإنما مع حزب الإصلاح"!
كان هذا الأمر مؤشِّرًا على انحراف بوصلة معركة "التحالف العربي" في اليمن عن اتجاه استعادة الدولة، وتجفيف منابع المشروع الإيراني في اليمن، ومنذ الوهلة الأولى للحرب. وهذا ما جعل دولة الإمارات -منذ بداية سيطرتها على محافظات جنوبية- تناصب حزب "الإصلاح" العداء، حيث رأت أن مشروعها وأطماعها التوسعية لن تتمَّ إلَا بعد سحق هذا الحزب، الذي يقف كسد صلب إلى جانب الدولة أمام المهددات المحدقة بالوطن ونظامه الجمهوري.
لقد أدى انحراف بوصلة معركة "التحالف العربي" وسياساته في اليمن إلى تقوية شوكة جماعة الحوثي، ومضاعفة دور إيران في المنطقة، نتيجة إضعاف سلطة الحكومة الشرعية وتقويض وظائفها وأدوارها لصالح الإنقلابيين في صنعاء وعدن.
لقد قادت الإمارات المشهد في عدن، وبعض المحافظات الجنوبية، بالعنف والقتل والجريمة المنظمة، وهو ما يوجب على المنظمات المحلية والدولية فتح ملف الاغتيالات والتحضير لرفع دعاوى قضائية -تستند على حيثيَّات التحقيقات السابقة ونتائج الفيلم الوثائقي المذكور- ضدَّ الإمارات، أمام المحكمة الجنائية الدولية، للأخذ بقصاص الأبرياء الذين ذهبوا ضحية هذه السياسات والمؤامرات، وردع من تسول له نفسه العبث بأمن وسلامة اليمن وشعبه ووطنه.