عن تقدم اليمنيين خلال العقود الخمسة الماضية على الأرض التي سمحتْ بقيام أول جمهورية في شبه الجزيرة العربية
لا ننكر أن للطبيعة والتضاريس والمناخ دور كبير في تحديد أقدارنا الوطنية والتاريخية، لكن هذا الدور لن يكون حتمياً إذا فهمناه وأحسنَّا الاستجابة له، على الأقل لن يكون حتمياً بالدرجة التي يبدو عليها اليوم.
الانسان ليس عجينة بلهاء تشكّلها قوى الطبيعة من طرف واحد، الانسان فاعل جبَّار في الطبيعة، وبمقدوره دائماً تطويعها والتأثير عليها لصالحه.
في العقود الخمسة الماضية، كنّا قد أحرزنا كيمنيين تقدماً جيداً في التخفيف من ضغط حتميات المكان وإكراهات الطبيعة.
وعشية اندلاع الحرب الراهنة، كانت غُربة سكّان مناطق اليمن وجهاتها عن بعضهم البعض أقل بكثير مما كانت عليها قبل مئة عام أو خمسين عاماً. لقد كانت نُسبة تفاعل اليمنيبن واختلاطهم وتجانسهم في مستوى أعلى مما كان عليه في أي وقت من الأوقات.
ودون أيّ مبالغة، كانت المسافات المادية والروحية والنفسية بين سكّان المناطق والجهات اليمنية قد تناقصت إلى أدنى مما كانت عليه منذ فجر التاريخ.
وكانت عوامل كثيرة تساهم، ببطء لكن بانتظام، في تقليص تلك المسافات، وفي قهر قوى العزل والفصل الطبيعي، وتقليل المفعول الذي كانت تمارسه الشروط المحلّية على الأفراد من مختلف المناطق والقرى.
سنذكر من هذه العوامل ثلاثة فقط، وبوسع القارىء أن يضيف إليها ما يشاء:
التجمعات الحضرية المدينية التي تشكّلت طوال الفترة الجمهورية في الشمال والجنوب، ومؤسسات التعليم العام، وكذلك شبكة الطرقات البرية المتواضعة التي أنجزت بصعوبة في بلد مضطرب وشحيح الموارد ومتذرِّر سكانياً، ثم أضيف إلى هذه العوامل وسائل الاتصال الحديثة وتقنية المعلومات وما تسمّى بالهواتف الذكية.
إنّنا نحبّ الاعتقاد بأن الهُوّة الروحية والنفسية بين صنعاء وتعز، وبين صنعاء وتعز وعدن، على سبيل المثال، لا تزال رغم كل شيء أضيق بكثير مما يتم تصويره لنا من قبل دعاة التفكيك وصُنّاعه الذين اجتهدوا على مدى العقدين الماضيين في تغذية أسباب الرُهاب المتبادل وسوء الفهم بين اليمنيين، وأقاموا بالكلمات المفخَّخة خنادق سحيقة وجدران عالية أقيمت في النفوس والعقول، بالتوازي أحياناً مع تحقيقها على الأرض.
لا نعتقد أن التفكّك والانفصال قَدَراً طبيعياً محتوماً، حتى لو حدث بالفعل، فليست اليمن التي توحّدتْ عام 1990 مختلفة من حيث التركيبة الجغرافية والمناخ وكميات الأمطار عن يمن اليوم المفكَّكة كأمر واقع، بل ليست هذه اليمن من حيث الطبيعة مختلفة حتى عن يمن كرب إيل وتر أو يمن شمَّر يهرعش أو يمن أروى الصليحي أو يمن طغتكين الأيوبي أو أزدمر باشا العثماني أو المتوكّل اسماعيل.
لا نعتقد أيضاً أن الإمامة قَدَراً طبيعياً محتوماً، فالأرض التي سمحتْ أحياناً بظهور الأئمة الزيديين، سمحتْ أيضاً بقيام أول جمهورية في شبه الجزيرة العربية. وهي الأرض نفسها التي حَكَمَ منها في الأزمان الغابرة الحميري اليهودي، والحبشي المسيحي، والفارسي المجوسي، والعربي المسلم، واليعفري الذي تشيّع حيناً وتسنّن حيناً آخر، والصليحي الشيعي، والتركي السنّي. وهي الأرض نفسها التي استقدم بعض ابناءها الإمام الهادي (الزيدي) إلى صنعاء، وبعد خمس سنوات أخرجه منها البعض الآخر من أبناء هذه الأرض بالقوة، طريداً وجريحاً يجرّ أذيال الهزيمة نحو صعدة.
لا نستطيع أن نكتفي بإلقاء اللوم على الطبيعة في كل شيء سيِّء نعاني منه اليوم. ونحن لسنا الشعب الوحيد في العالم الذي تتكون بلاده من جبال وسهول ووديان. يقول البردوني في هذا الصدد: "كلّ شعوب الأرض مكوَّنة من جبال وأغوار ونجود وتهائم، ولم يؤلِّف هذا الاختلاف الجغرافي حسّاً طائفياً"، (البردوني، اليمن الجمهوري، ص 136).