عذاب السّجن
عقب التّسليم من صلاة المغرب، وقف الشّيخ حفظه الله، ليلقي خاطرته كعادته، هذه المرّة أخذ يحدّثنا عن «عذاب القبر»، كان فصيحًا وصوته جهوريًا، لذا لم يكن أحدًا ينصرف إذا وقف خطيبا.
ثقةً بأقول علماء ثقات، أؤمن بعذاب القبر، لكنّي أعلم أن أمره ما زال قضيّة جدليّة، أي أن الأدلّة على حقيقته ليست كثيرة- وإن كانت كافية- إنّما أعني أن الحديث عنه بإسهاب غير متاح، وهذا ما جعلني أتساءل:
هذه التّفاصيل المرعبة التي يسردها الشّيخ من أين أتى بها؟
المهم كان حديثه مؤثّرًا وشيّقًا لمن يدمن قصص الرّعب- أمثالي- إلا أن شابًا يتأوه من وسط الجموع بشكل لفت أنظارنا جميعنا، وعلى تأوّهه، يحمى الشّيخ ويشتدّ وتعلو نبرته، حتّى أنهار الشّاب باكيًا كالطّفل ونحن في حالة استغراب!
لكأنّه خرج لتوّه من القبر مجربًا لكلّ ما نسمع من العذاب، فهو يتأوه لأنّ الشيخ يذكّره بكلّ عذابٍ ذاقه!
صمت الشّيخ، وقد حسّ وأدركنا جميعًا أن الأمر غير طبيعي، ألتفينا حول الشّاب محاولين تهدأته ومعرفة سرّ آهاته وبكائه، فما أذهلنا أننا وجدنا آثار تعذيب على كلّ موضع ظفر من جسده!
«ما بك يا أخي، من فعل بك هذا؟!» يسأله شيخنا، وبعضنا يصيح (اسعفوه لا وقت للحديث الآن)!
«أتركوني، أنا أبكي رفاقي، ما زالوا هناك يتعذّبون!»..
قالها الشّاب مختنقًا بآهاته مثقلًا بجراحاته وكأنّه فعلًا يشير إلى رفاقه الموتى في البرزخ!
«أين هناك يا أخي! ومن رفاقك؟!» يسأله الشّيخ،
فأجبتُ:
الأمر واضح يا شيخ حفظك الله، إنّه «عذاب السّجن»، حين ترى بشرًا معذّبًا على هذا النّحو، فثق أنّه خارجٌ من قبر أو من سجن!
وما هي إلا لحظات، وأتى بعض أهل الشّاب، حملوه وانصرفوا، وعن قريبٍ سيعودوا به إلى المسجد، لنصلّي عليه، فما أعلمه والشّواهد لا تعد، أنّهم لا يطلقون سجينًا إلا وبه رمق، وهذا الرّمق الأخير يتجلّى في الشّاب لكلّ ذي عين تبصر.
ساد في المسجد فوضاء الأحاديث الجانبية، والشّيخ على زاوية من المحراب واجمًا مطرقًا لا ينبس، حتّى نادى عليّ!
أجبته سعيًا، فأنا أنتظر هذا النداء، ولو تأخر قليلًا، لذهبت دونه!
جلستُ إلى جانبه، فسألني:
«هل تعرف هذا الشّاب؟!»
- نعم، أعرفه وأحفظ ملامحه جيدًا، لكنّه اليوم شخص محتلف تمامًا، والله لولا شامة مميزة في عنقه، لأنكرت أن يكون هو ولو أدعى بالأدلّة والشّهود!
- لا حول ولا قوّة إلا بالله! ولماذا سُجن؟!
- مقالة نشرها قبل شهرين على صحيفة، واختفى من بعدها.
- مقالة؟!
- أي والله مقالة، وهذا الشّاب هو صحفي!
أطرق الشّيخ صامتًا، والدّموع تنصّب على لحيته فصيحة مثل لسانه!
سألته:
ألا تودّ أن تعرف ما هي المقالة التي كتبها؟!
- ما رأيتُه على جسده لا تبرّرة مقالة مهما كُتب فيها، بل ولا أي جرمٍ يبرّره على الإطلاق.
- أعذرني يا شيخ!
فالحقّ لابد أن يُقال، ما زلتَ حتّى خاطرة الأمس تحثّني على طاعة ولي الأمر وإن جلد ظهري، وما رأيتَه على جسد الشّاب هي آثار السّياط، فعلام تعجّبك ودموعك؟
هل لأن ولي الأمر خالف الشّرع وزاد على جلد الظّهر، الصّعق الكهربائي ونزع الأظافر وإطفاء السّجائر في أماكن حساسة من الجسم!؟!
لم يجب، بل زاد إطراقًا وإنهمارًا بالدّموع!
وأنا لا أرى وقتًا أنسب من إفراغ جعبتي من هذا الوقت، ففي جعبتي حديث شارف أن يتعفّن من طول انتظاره، فطالما تمنّيتُ أن أتحدّث إليه فيما يخصّ الطاعة المطلقة الغير مشروطة لولاة الأمر، فيسمع منّي وأسمع منه ويعلم كلٌ منّا حجّة الآخر، ولكن ظلّ هذا الأمر يبدو مستحيلًا، فقد كنتُ في نظره من الخوارج، لا يمكن أن أسلك وأيّاه فجًّا، ناهيك أن نجتمع في مجلس:
«يا شيخ!
راجع نفسك، إن الله سمّى نفسه الرّحمن الرّحيم وبعث نبينا وقال له «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، فلا يمكن أن يعطي رخصة لمخلوق يفعل في عباده ما يشاء، دون أن نحاسبه على شيء، لقد عاتب نبيّه الكريم بسورة نزلت من فوق سبع سنوات، لأنّه عبس وتولّى إذ جاءه الأعمى!
وأنت السّاعة تحدّثنا عن «عذاب القبر» بقصص من نسيج الخيال، تأوه شابٌ من «عذاب السّجن» وعليه كلّ آثار التّعذيب شهودٌ وأدلّة، هذه ليست مصادفة، إنّها رسالة إلهيّة كالرّؤيا الصّالحة، لكنّها رؤيا صريحة لا تحتاج تأويل، تقول لك بوضوح:
إن قبور الأحياء أولى بحديث الآمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر، فإن لم تفيق من غفلتك، فلا حول ولا قوة إلا بالله!».
انصرفتُ عنه وقد اشتفيت، وبقي على حاله باكيًا حتّى أُقيمت صلاة العشاء، توقّعتُ أن يقدّم غيره إمامًا للصّلاة نظرًا لسوء حالته، لكن يبدو أن للمحراب شيء من شهوة السّلطة عند (مشايخ السّلطان)!
قرأ في الرّكعتين الجهريتين من قصار السّور، وقد بدا واضحًا أنه يغالب البكاء..
حين وقف من الرّكعة الأخيرة، لم يسجد إلا وقد أحدث أعظم إنقلابًا شهدته في حياتي، من الرّهبة، أغلب المصلّين سلّموا واقفين وانصرفوا، ومن بقي منهم وهم قليل، لم يجرؤ أحد منهم أن يقول (آمين) على دعاء الشّيخ!
«.. يا من يرى حالنا ويعلم ضعفنا وقلّة حيلتنا وهواننا على الظّالمين، يا كريمًا يحبُّ العفو ورحيمًا وسعت رحمة كلّ شيء، نقف بين يديك، نرفع أكفنا إليك، ندعوك بدعاء الثّلاثة الذين لا تردّ دعوتهم، المظلوم والمضطر والمسافر، وإننا في دولة البُغاة في ظلمٍ وضرٍ وغربة..
اللهم إننا نشكو إليك شرارنا، قدّ تولّوا أمورنا، فما والوا غير شرِّ أعدائك، ولا عادوا سوى خيرٍ عبادك، ما تحرّفوا لقتال إلا كنّا القتلى، ولا تحيّزوا إلى فئة إلا كانت كافرة، نعرفهم طغاة جبّارين، ويعرفهم أعداؤنا أذلّة صاغرين، من أجل دنياهم يا ربّ، ضيّقوا علينا الحياة دينًا ودنيا..
اللهم إن كنت قد سلّطتهم علينا بذنوبٍ اقترفناها، فأنت الغفّار الغفور..».
ما لوى الشّيخ عنقه يسارًا في التّسليم من الصّلاة، إلا وقد بقيّة المصلّين عند الأحذية!
إنّها لحظات مرعبة حقًّا، في هذا الحيّ توجد أجهزة الدولة البوليسية، منها جهاز الأمن القومي سيء الصّيت، علاوة على ذلك أغلب قصور المسئولين النّافذين، فالأمر ليس سهلًا، هو بالفعل إنقلاب، فالأئمة كالوزراء يتم تعينهم من قبل الدّولة على المساجد!
ما زال الشّيخ في وضعية الجلوس للتّشهد، يطرق برأسه ويستقبل القبلة، وليس خلفه من المصلّين غيري!
«يا تُرى، هل كانت قصّة هذا الشّاب محور إنقلاب الشّيخ على هذا القدر، أم كانت القشّة التي قسمت ظهر البعير؟»..
هذا ما دار بخاطري ورغبتُ- رغم حساسية الوضع- أن أعلمه!
قربت من الشّيخ، وناديته من خلفه نداء خافتا: (يا شيخ..!)
ألتفت إليّ كالأسد مكشرًا أنيابه صارخًا، يأمرني بالانصراف الفوري، وأنا أحاول تهدأته، لأحدثه ما أريد معرفته، فهب يدفعي إلى الخارج، وفجأة داهمنا جنود فرعون مدجّجين ملثّمين، كأنّهم يداهمون موقعًا للعدو!
«أرأيت! هؤلاء هم الظّالمون الذين تدافع عنهم يا عدو الله..»!
بهذه العبارة صرخ الشّيخ في وجهي قبل أن يجرّوه إلى عربة التّرحيل جرًّا مهينا!
لو لم يصرخ بها، لجرّوني معه، فهو قد أنقذني بتصرفٍ حكيم!
هكذا يعتقد، لكن الحقيقة أنّه تركني لأقسى شعور عشته في حياتي، شعور الظّلم والقهر والعجز!
وإن الظّلم مريرٌ حيث وقع، وليس شرطًا أن يمسّك السّوط لتألم، فميزة الإنسان عن الحيوان أن يشعر بالمظلوم حين يراه، وحين يكون عاجزًا عن دفع الظّلم، فلا عذاب أقسى من شعور الظلم والقهر والعجز مجتمعة!
«يا من حرّم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرّما، ها نحنُ في بيتك نُذلُّ ونُظلم، إمامنا في الصّلاة يُجرّ من من محرابك إلى زنازين الطّغاة..
يا من أنت على كلّ شيء قدير، أنّ الظالمين يرونا قدرتهم كلّ يومٍ، فأرنا فيهم قدرتك يوما..
يا قهّار لا يعجزه شيء، أشكو إليك ظلمًا وقهرًا وعجزًا تأكل الآن قلبي تحت سقف بيتك..».
ما زلتُ أدعو ودموع القهر تنهلّ غزيرًا لو أنّها تصعد من بئر لجفّت، لم يقطعني سوى نداء صديق من الباب، يناديني وعليه أثر القلق، انصرفت من المسجد، فأخذ بيدي ولم ينبس بكلمة حتّى بلغنا داره، وأغلق الباب وراءه.. وتنفّس الصّعداء:
«قلقتُ عليك من هؤلاء الكلاب، فعدتُ أركض حافيا..»..
أي كلابٍ يا صديقي!
كلّ السّباع في صدري، تنهش القلب والكبد..
في صلاة الفجر، كان أمامنا شيخًا جديدا، وبهذا انتهت الحكاية، لم يتحدّث أحد من المصلّين عمّا حدث في الفرض السّابق، ومرّت الأيام والسّنوات!
في مقطع فيديو تداوله رواد الميديا وأضحى ترند قبل مدّة ليست بالقصيرة، كان لمجنون يفترش الرّصيف في حالة مزرية، والمجانين أكثر شيءٍ في الأرصفة، إنّما لفت انتباههم بتلاوته العذبة للقرآن الكريم وإلقاء الخواطر الفصيحة..
يقول الرّاوي عن حالته:
«إن هذا المجنون كان شابًا صالحًا حافظًا للقرآن، هام حبًّا في فتاة، ولكن تعذّر عليه الزّواج بها وتزوّجت بغيره، فأُصيب بالجنون..»!
كانت هذه هي الرّواية الكاذبة الوحيدة التي حاولت تصديقها بقدر ما أستطيع، لكنّ الحقيقة كانت ساطعة أعظم من عين الشّمس..
إنّه هو، إن أنكرته العين، لتغيّر هيئته، لن تنكره الأذن، وكان هذا حاله بعد أيامٍ على خروجه من السّجن، لم يعش على الرّصيف إلا أيامًا معدودات، ومات مفترشًا قطعة من الكرتون..
«عند الله تجتمع الخصوم..»
عبارة يتعزّى بها الجبناء، ويأمن بها الظّالمون على دنياهم من الانتقام، أمّا الآخرة، فلو آمنوا بها، ما أعلنوا الحرب على الله ورسوله.