لماذا تتوحش الجماعات؟
إنّ كلّ سلوكٍ عمليٍّ على أرضِ الواقعِ كان أولا فكرة حائمة في العقل، فقبل أن يتشكلَ السلوكُ واقعًا يتشكل أولا في الفكر نظريًا. وكلُّ سلوكيّاتِ البشر هي ــ في غالبها ــ نتاجُ رؤاهم وأفكارهم وتصوراتهم، سواء سلوك الأشخاص منفردين، أم سُلوك الناس مجتمعين؛ إذ أنّ لكل أمة أو جماعة سلوكها الخاص الذي تتفرد به تجاه غيرها، كوحدة جمعية واحدة، لها عقل جمعي واحد، وفقًا لإشارةِ الفيلسوفِ جوستاف لوبون.
وقبل سلوكها الجمعي "العملي" لها أيضا رُؤاها الجمعية "النظرية"، وخاصّة الجماعات الأيديولوجيّة الصّلبة، المتحوصلة على ذاتها، والمتكوّرة على نفسها. ينطبقُ هذا على كل أيديولوجيّات اليمينِ واليسارِ والوسط على حدٍ سواء، على تفاوتٍ بينها.
وكلما ازداد تكوُّر الجماعةِ وتحوصُلُها على ذاتها زادت التحامًا ببعضها، وتمسكا بقائدها أو رئيسها الأول، هذا التكورُ قد يكون نتاجَ أخطارٍ تَتَهدّدُها، أو "وهم" أخطارٍ أحيانا لا أكثر.
ولتعميقِ هذا الشعور أكثر في نفوسِ الأتباع يعمد منظرو الجماعات الأيديولوجيّة إلى تعميق الشعور بالمظلومية، وتقمص دور الضحية، وهذا من أسوأ أنواع الشعور النفسي على الأفراد أو الجماعات؛ إذ سرعان ما يخلق هذا التفكير نفسية منحرفة، تنظرُ للآخر بتوجسٍ وارتياب، وتنزع كل ثقةٍ متبادلةٍ بين الأفرادِ أو الجماعات، يؤدي هذا الشعور في محصلته النهائية إلى الصّدام النفسي، فالصدام المادي، ومن ثم الحروب والمآسي، وتاريخ الصّراعات الاجتماعيّة والدينيّة شاهد على هذا.