يخشون أن تصيبهم دائرة !
بالرغم من أن وثيقة المدينة المنورة نظمت شؤون حياة كل ساكنيها بمن فيهم اليهود، إذ كفــــــــلت لــهم حريتهم الدينية و التجارية؛ إلا أن طبعهم المتأصل فيه الخسة و الغدر و نكث العهود أبى إلا أن يبرز بأقبح صور الغدر و نقض العهود.
كان أول من نقض عهد وثيقة المدينة من اليهود، و غـــــــدر بميثاقها قبيلة بني قينقاع.
و كان يهود بني قينقاع قبل الإسلام حلفاء لعبد الله بن أبي، كما كانوا في الزمن نفسه حلفاء لعبادة بن الصامت.
ليس من عادة اليهود و لا في طبعهم الحفاظ على عــهد أو ميثاق؛ لأن ديدنهم نكث العهود، و نقض المواثيق(فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع اللـــه عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا. وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما).
و جريا على طبعهم و طبيعتهم، و حقدهم و خستهم، غدروا بعهدهم مع رسول الله، و بالميثاق الذي واثقوا به الرسول عليه السلام بوثيقة المدينة الشهيرة التي كفلت لهم حريتهم الدينية و حريتهم التجارية التي هي أهم لديهم من كل شيئ.
لكن جريان الطبع الذميم في عروقهم عبر العصور و التاريخ أبى إلا أن يبرز بأقبح الصــــــــــور، فغدروا بالعــــهد و الوثيقة و الميثاق.
إن غَضّ الطرف عن الغدر المـــــــدمّر، و التغاضي عن المكر المُبَيّت ضعف إرادة، و فقدان حــــــزم ، و خِفّة عقل؛ و لذا فإن الرسول عليه الصلاة والسلام الذي حذرهم عاقبة غدرهم، نبذ إليهم على سواء بحسم سريع، و حزم لا تردد فيه، فحاصرهم لينزل فيهم عاقبة غدرهم.
أمام مثل هدا الحـــــزم و الحسم، و القوة التي تنهض لأداء دورها في الوقت اللازم ؛ يبرز النفاق عاريا غير مبال بسوءته المكشوفة، و عورته الظاهرة، فتجده و قد تخلّى عن رجـــولة كان يدّعيها، و مواقف كان يزعمها، و مبادئ تظاهـــر بها ؛ فلما ظهرت الحاجة لتفعيلها، و جاء أوان الأخذ بها، ألفيت حقيقته غير ما كان يبدي، و أفعاله غير التي كان يُظــهر، فتسقط عنه كل ورق كان يحجب بها العـــورة، و يستر بها السوءة، فيعــلن انحيازه اللئيم و الموقف السقيم، مُعَللا موقفه المهين: نخشى أن تصيبنا دائرة ..!!
ذلك كان موقف عبدالله بن أبي و المسلمون يحاصرون غدر يهود بني قينقاع. يهتف ابن أُبي جهارا، و يتخذ موقفا علنا: يا محمد أحسن في مَوَاليَّ ..!!
ويح بني قينقاع، ماتزال تتناسل بغدرها و مكرها و حــقدها و خستها، و نقض عهودها و مواثيقها، و ويحـــــك يا ابن أبي؛ ماذا ابتدعت من بدعة سوداء خبيثة، بنذالة الطَّوِيُة، و ســوء النية؟
هكذا ؟ دفاعا ظاهرا عن غـــــــدر اليهود؟ و موالاة مكشوفة عارية لخستهم و إجرامهم و عدوانهم؟
تخشى أن تصـــــــــيبك دائرة، فتولٌِي وجهك شطر الكنيست، و تدير ظهرك للأقصى؟ تنزع يدك من يد عـــــمر، و أبي عبيدة، و صلاح الدين،و عبد القادر الحسيني،و ياســـــــر عرفات، و لا تخجل من أن تضعها في يد حيي بن أخطب و شارون و بيجن و موشيه ديان؟
ويحك يا ابن أبي ! أي سابقة سيئة سَبَقْتَ إليها، و أي سُنة خبيثة سننتها !!؟ لقد سهّلت الطريق لأمثالك ممن ياتي بعدك، فَبُؤ بسوء السبق، و نذالة الموقف.
و إذا كان ابن أُبي قد باء بالخــــــزي يوم بني قينقاع، و نال الذل و العــــــــار ، و قـــــــدم صـورة الهـــــــــوان القبيح، فإن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قد وقف الموقف الذي يُجسّد الشموخ، و الإباء، و مواقف العزة و الكرامة.
لله درك عــــــبادة بن الصامت، لقد رسمت الطريق الحق لكل المؤمنين، وكنت القدوة لكل الأحــــــرار ، و لقنت ابن أُبى درسا في العزة و اليقين و الثقة؛ إنه درس يقف شامخا واضحا أمام كل من توسوس له نفسه أن يسلك طريق ابن أُبي، في أي زمان و في اي مكان، فيما هناك كلمات عبادة تُدَوّي معلنا: أنه باللــه، و لله، و لا يخشى الدوائر ، معلنا انحيازه لله و رسوله.
سقط ابن أبي و هو يترجّى، و يتلعثم وجلا، يا محمد: أحسن في موالي، إني امرؤ أخشى الدوائر . و سما عبادة بن الصامت شامخا باذخا؛ بمنطق المؤمن الحر ، قائلا : أمّا أنـا فأتولّى اللــه و رسوله.
كيف تاهت عقلية عبدالله بن أبي؟ فذهبت تخبط في الظلمة و الظلام، و كيف قيدته حسابات الربح و الخســــــــارة؟ فعمي بصرا و بصيرة عن نور المبادئ، و وَهَج ضياء المواقف.
كيف أُشْرِب حب من أُشربوا حب العجــل، و تنكــــــر لعروبته كعربي، ناهيك عن تنكره للحق المبين، و الرسول الأمين.
إنها الخيبة و الخسارة، و الهوان، إذا ما كانت هناك مـــواقف تخشى على نفســـها الدوائر، بسبب حسابات الوهم و الأنانية، فيما غــــــزة بأطفالها و نسائها، و فتيانها و رجـــــــالها، يقفون بشموخ الإيمان وكبرياء الثقة بالله في وجه أطغى طغاة العالم و أدواتهم القذرة، قتلة الأنبياء.