سُحق أمامها الصليبيون.. ما لا تعرفه عن مدينة البطولة ”غزَّة هاشم” وما سبب التسمية وسر وصفها بـ”مفتاح القدس”؟
صار قطاع غزة، وما يجري فيه، هو حديث العالم، منذ السابع من أكتوبر الماضي، بعد إطلاق فصائل المقاومة الفلسطينية عملية "طوفان الأقصى" وما أعقبه من عدوان اسرائيلي وحشي، أباد خلاله الاحتلال الغاشم عائلات وأحياء سكنية مدنية بأكملها، ونتج عن ذلك، إلى جانب تدمير المدينة، وكل مقومات الحياة فيها، أكثر من 11240 شهيدا بينهم 4630 طفلا و 3130 امرأة و 189 من الكوادر الطبية بين طبيب وممرض ومسعف، وفق إحصائية نشرها المكتب الإعلامي الحكومي بغزة مساء أمس الإثنين.
وتتعرّضُ غزة منذ سنوات طوال لحصار شديد، يعاني أهلها من الصعاب والفاقة، ويتمنون أن يعيشوا حياة كتلك التي عاشها آباؤهم وأجدادهم، فقد عرفت مدينتهم تاريخا طويلا مزدهرا ولافتا من الأحداث السياسية المفصلية، ومن الشخصيات العلمية المرموقة، ويكفيها فخرا أن جدَّ رسول الله مدفون بها، وأنها مولد الإمام الشافعي مؤسس المذهب الشهير، وأحد أشهر علماء الإسلام.
غزَّةُ هاشم
والحق أن لغزة تاريخا طويلا ضاربا بجذوره في عُمق التاريخ والحضارة، إذ يُقدِّر بعض العلماء وجود الحياة البشرية والحضرية فيها إلى 3300 عام قبل الميلاد، وبعضهم لأكثر من ذلك. وقد عرفت هذه المدينة الكثير من الأمم الذين وفدوا عليها من الشرق والغرب، حيث تبدَّل اسمها بتبدل الأمم التي صارعتها. وكان العرب ولا يزالون يسمونها غزة، والكنعانيون هزاتي، والمصريون القدماء غازاتو، والآشوريون عزاتي، ومن المؤرخين اليونانيين القدماء مَن يقولون إن "غزَّة" مشتقة من العزَّة وهي المنعة والقوة، ومنهم مَن يقول إن معناها الكنز الملكي أو الثروة.
وقد جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي نقلا عن بعض اللغويين أن "العرب تقول قد غزَّ فلان بفلان واغتزَّ به إذا اختصه من بين أصحابه"[1]، وكأن مَن بنوا هذه المدينة أول ما بنوها قد اختصوها بالمكان والمكانة لأهمية موقعها وصلاحه للعيش. وكانت غزة على مر العصور ذات صلة وُثقى بالعرب والحياة العربية، حيث ارتادها العرب، بل يُقال إنهم أول مَن بناها من البشر باعتبارها قريبة من الجزيرة العربية أرض اللُّبان والتوابل وغيرها مما كانت تحتاج إليه مصر الفرعونية في طقوسها الدينية وتحنيط أجسام موتاها[2].
ولئن أسَّس المدينةَ العرب المعينيون، وهم قوم قدموا من جنوب الجزيرة العربية قبل الميلاد بأكثر من ثلاثة آلاف عام، فقد استوطنها السبئيون اليمنيون من أبناء قحطان، وهم قوم اشتهروا بالتجارة وبسد مأرب الشهير، وكانوا يقدمون بتجارتهم إلى غزة حتى هزموا المعينيين فيما بعد، واستولوا على مُلكهم ومن جملته غزَّة، "ويُفهم من هذا كله أن غزَّة العربية كانت قائمة نحو سنة 3750 قبل الميلاد" كما يذكر مؤرخ فلسطين عارف العارف[3].
وقد مرَّ على المدينة أقوام آخرون من العرب والعبرانيين والكنعانيين والمديانيين أحفاد إبراهيم عليه السلام وغيرهم كثير، كما احتلها الفُرس والمصريون القدماء حتى استقرت قبل مجيء الإسلام تحت سيادة البيزنطيين الروم. وفي تلك المرحلة كان العربُ في تجارتهم إلى الشام ومصر يأتون إليها، ويستقرون بها، وبها مات جدُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم "هاشم بن عبد مناف القُرشي" في تجارة له وهو لا يزال شابا ابن خمس وعشرين مع أخيه عبد شمس، وسُميت لهذا السبب بين العرب بغزَّة هاشم. ويذكر ابن فضل الله العُمري في "مسالك الأبصار" أن غزة كانت وجهة لـ"واحدة من رحلتي قريش المذكورتين في القرآن، رحلة الشتاء والصيف، وهي الصيفية منها"[4].
بل يذكر العُمري ما هو أهم من ذلك حين يخبرنا أن غزة كانت وجه الخير والسعد على قبيلة قريش كلها، فحين كان هاشم بها زمن البيزنطيين قابله أحد أباطرتها أو كبار القادة فيها، فأُعجب به وبلباقته، وهنا استغل هاشم هذا اللقاء ليأخذَ أمانا لقريش وقبائل العرب مما بين مكة والشام في تجارتهم: "فدعاه قيصر، فلما رآه وكلَّمه، أعجبه إعجابا عظيما، فقال له هاشم: أيها الملك إن لي قوما هم تجار العرب، فإن رأيت أن تكتب لي كتابا تؤمنهم فيه على أنفسهم وما معهم من المال والبضائع وغير ذلك فإنهم يقدمون عليك بما تستظرفه من أدم الحجاز وثمره وغير ذلك مما يصير إليهم ولا يبلغك من طرف البلاد، فأمر أن يُكتب له كتاب جامع للعرب". وبفضل هذا الكتاب أو الاتفاقية التجارية[5] نمت تجارة قريش، وفاقت العرب ثروة ورفاهة، ومن نسل هاشم الذي مات في غزة وقبره بها وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واللافت أن أسقف غزة قد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين كان في تبوك في غزوته المعروفة عام 9 من الهجرة، فأخبره أن جدَّه هاشما وأخاه عبد شمس قد ماتا في غزة منذ سنوات طويلة أثناء تجارتهما، وقد أخذت الكنيسة هذه الأموال وبقيت في عُهدتها، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عمَّه العباس بن عبد المطلب فقال: "اقْسِم مال هاشم على كُبراء بني هاشم". ودعا أبا سفيان بن حرب فقال: "اقسم مال عبد شمس على كبراء ولد عبد شمس"[6].
غزة مفتاح القدس
وعلينا أن نفهم إذن السر الذي جعل عمرو بن العاص رضي الله عنه يُصر على فتح فلسطين ومصر فيما بعد، ذلك أن عَمرا كان كدأب القرشيين من أمثاله ممن امتهن التجارة، وكان أكثرهم خبرة بفلسطين ومصر من أقرانه لكثرة تردده عليهما؛ ولأجل ذلك بعدما نجح المسلمون في القضاء على المرتدين في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وشرعوا في فتوحات الشام والعراق، "دعا [أبو بكر] عمروَ بن العاص فسلَّم إليه الراية، وقال قد وليتك على هذا الجيش يعني أهل مكة والطائف وهوازن وبني كلاب فانصرف إلى أرض فلسطين"[7].
وفي فلسطين نجح عمرو نجاحا كبيرا في تقدمه، حتى وقعت معركة داثن -وهي قرية تابعة لغزة وقتذاك- إحدى أهم المعارك الفاصلة للوجود البيزنطي في كامل فلسطين، وكما يقول الطبري في تاريخه: "اقتتلوا فيها قتالا شديدا، ثُمَّ إن اللَّه تعالى أظهرَ أولياءه، وهزم أعداءه وفضَّ جمعَهم"[8]. وبعد انتصار المسلمين في معركة داثن، أصبح الطريق إلى غزة مفتوحا أمامهم، وبالفعل قضوا على حاميتها الأخيرة، فدخلوها مكبرين مهللين، ولهذا السبب يذكر بعض المؤرخين أن أول مدينة فتحها المسلمون في فلسطين كانت غزة، وبعد أيام قليلة أتموا فتح بقية مدن فلسطين عام 13هـ، ولم تبقَ أمامهم سوى مدينة القدس فحاصروها حتى جاءها عُمر بن الخطاب فاتحا عام 15هـ، وكتب لأهلها العُهدة العُمرية الشهيرة.
من الناحية السياسية كانت غزة في كثير من الأوقات واحدة من المناطق الإستراتيجية بالنسبة لفلسطين ومصر وسوريا على السواء، وكثيرا ما تنازعتها الدول، فقد سيطر عليها بعد الأمويين والعباسيين كل من الطولونين والإخشيديين، وكانت موطن صراع بين الفاطميين والصليبيين الذين احتلوها وبنوا فيها قلعة وأحاطوها بأسوار لتكون مقرا للمراقبة المتقدمة ضد الفاطميين على الحدود، ولما جاء صلاح الدين الأيوبي وبدأت إستراتيجيته في تحرير فلسطين والأردن وسواحل بلاد الشام من الصليبيين، كان تحريره لمدينة غزة في العام نفسه لفتح بيت المقدس عقب معركة حِطِّين سنة 583هـ.
وهذا الأمر يلاحظه مؤرخ سيرة صلاح الدين، بهاء الدين بن شداد في "النوادر السُّلطانية والمحاسن اليوسُفية" حين يقول: "ولما تسلم عسقلان [وغزة] والأماكن المحيطة بالقُدس شمَّر عن ساق الجدِّ والاجتهاد في قصده، واجتمعت عليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل بعد انقضاء لبانها من الغارة، فسار نحوه معتمدا على الله معوضا أمره إليه، منتهزا فرصة فتح باب الخير الذي حثَّ عليه صلى الله عليه وسلم"[9]، ونجح بالفعل في تحرير القدس بعد احتلال دام أكثر من تسعين عاما.
غير أن الدولة الأيوبية بعد صلاح الدين دخلت في دوامة من الصراعات بين أبنائه وأبناء أخيه العادل، ثم بين جيل الأحفاد، بسبب تقسيم الدولة الأيوبية إلى مراكز على رأس كلٍّ منها فرد من البيت الأيوبي. وبدلا من التعاون في استكمال ما بدأه جدُّهم في القضاء على الصليبيين في السواحل، راحوا يتآمرون على بعضهم في مصر والشام، بل بلغ بهم الحال إلى التعاون مع الصليبيين على حساب القُدس وسواحل الإسلام في الشام وفلسطين. ومن هؤلاء الصالح إسماعيل بن العادل بن أخي صلاح الدين الأيوبي الذي تمكن من السيطرة على دمشق في فترة من الفترات، وشرع يتعاون مع الصليبيين في بلاد الشام ضد ابن أخيه سلطان مصر الصالح نجم الدين أيوب؛ آملا في السيطرة على مصر وفلسطين. ومن أجل هذا الهدف فتح الباب للصليبيين ليدخلوا دمشق ويشتروا منها السلاح والميرة، ما دفع العلامة الشيخ العز بن عبد السلام للوقوف أمامه، ومن ثم اضطر إلى الهجرة إلى مصر فيما بعد. ولم يتوقف الصالح إسماعيل عند هذا الحد، بل أبرم مع الصليبيين اتفاقا عسكريا سلَّم إليهم بموجبه بيت المقدس وطبريا وعسقلان وغزة[10].
أمام هذه الخيانة العلنية للإسلام والمسلمين ولإرث وجهاد صلاح الدين الأيوبي، عزم سلطان مصر الصالح نجم الدين أيوب على مواجهة هذا الحلف وإعادة القدس وتوحيد مصر والشام من جديد، وطرد الصليبيين من فلسطين. وكان الصالح أيوب قد وجد في بقايا الجيش الخوارزمي المنهزم أمام المغول فرصة للتحالف، فاستدعاهم من الأناضول إلى غزة ليتقوَّى بهم في معركته القادمة. وفي جمادى الأولى من عام 642هـ وقعت معركة غزة بين جيش مصر الأيوبي الذي تقدَّمته قوات المماليك بزعامة بيبرس وأقطاي وأيبك وعلى رأسهم الصالح أيوب من جهة، وقوات الأيوبيين في الشام بقيادة الصالح إسماعيل والمنصور صاحب حمص والصليبيين من جهة.
يقول مؤرخ الأيوبيين ابن واصل: "وقع المصاف بين الفريقين بظاهر (خارج) غزة، فكُسر الملك المنصور ومَن معه كسرة عظيمة، وأخذت الفرنجَ سيوفُ المسلمين فأفنوهم قتلا وسبيا، ولم يفلت منهم إلا الشارد النادر، وأُسر من عسكر دمشق وعسكر الكرك جماعة مقدمون وغيرهم، ونُهبت جميع أثقال الدمشقيين، وحُكي عن الملك المنصور أنه قال: والله لقد حضرتُ الحرب ذلك اليوم وأوقع الله تعالى في قلبي إنا لا ننتصر لانتصارنا بالكفار على المسلمين"[11]. وبفضل معركة غزة استرد المسلمون القُدس مرة أخرى بعدما هُزم خائن بني أيوب الصالح إسماعيل، وظلت القدس منذ هذا التاريخ في يد المسلمين حتى دخلها الجنرال البريطاني اللنبي بعد ذلك بثمانية قرون. وقد لاحظنا أن استرداد القدس في زمن صلاح الدين الأيوبي وفي زمن حفيد أخيه الصالح نجم الدين أيوب، بل منذ عصر الفاتح عمرو بن العاص، كان يتم عادة بعد تحرر غزة وعسقلان، والانطلاق منهما.
أرض الإمام الشافعي ومنبت العلماء
ومنذ ذلك الحين استوطن المسلمون غزة وكثروا بها حتى سادوها منذ الفتح الإسلامي. وقد عرفت غزة عددا من كبار علماء الأمة الذين وُلدوا فيها، وأصبح لهم علامة في تاريخ المسلمين، وعلى رأسهم الإمام الشافعي محمد بن إدريس المطلبي الهاشمي القرشي، ويلتقي الشافعي في نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف بن قصي كلاب، وقد حكى الشافعي عن نفسه قائلا: "وُلدتُ بغزة سنة خمسين ومئة، وحُملت إلى مكة وأنا ابن سنتين"[12]. وفي رواية أخرى أن الشافعي أخذته أُمُّه بعد وفاة والده يتيما إلى مدينة عسقلان عند أقارب لهم، ثم انتقلوا إلى أهله وقبيلته قريش في مكة المكرمة، وفيها تعلَّم وكبر.
وفضلُ الشافعي على الأمة كبير، فهو مؤسِّس المذهب الثالث بعد أبي حنيفة ومالك بن أنس، وأحد كبار علماء الأصول المجتهدين في تاريخ الإسلام كله، وأنبغ مَن أنجبت العرب بعد عصر الصحابة، ومع هذه المكانة المرموقة وانتقاله من مكة إلى قبائل هذيل لتعلم لغة العرب ثم إلى المدينة ثم إلى العراق ومنها إلى مصر التي توفي فيها وهو ابن 54 عاما، لطالما حنَّ الشافعي إلى غزة والعيش فيها، حتى إنهم قالوا إنه عندما اشتاق إليها يوما قال[13]:
وإنّي لمشتاقٌ إلى أرضِ غزَّةَ *** وإن خانَني بعدَ التفرُّق كِتماني
سقَى اللهُ أرضا لو ظفرتُ بتُربِها *** كَحَلتُ به من شِدّة الشوقِ أجفاني
ويذكر بعض المؤرخين أن آسيا بنت الإمام الشافعي وخادمه عطية انتهى بهما الحالُ إلى غزة وقد توفيا فيها، وقبرهما في دار للوقف بحارة الزيتون. ويعتقد أهل غزة الأقدمين أن مدفن آسيا بنت الإمام الشافعي هو مكان مولد أبيها، وهو قريب من المسجد العُمري التاريخي في وسط المدينة، وقد أمسى قبلة لأهل البلد، وفيه تقام الندوات، وبه مركز لتعليم الفقه الشافعي وتحفيظ القرآن الكريم. وقد أعادت الإدارة العامة للمعاهد الأزهرية في قطاع غزة ترميمه قبل سنوات، حيث تتولى المسؤولية عن المكان منذ زمن الإدارة المصرية لغزة قبل أكثر من ستين عاما.
ويبدو أن الشافعي لم ينقطع عن سُكنى غزة بعدما شبَّ وأصبح ملء السمع والبصر، فقد التقاه فيها صديقه القاضي هارون بن عبد الله الزهري المديني أحد قضاة الدولة العباسية في مصر والشام، الذي قال عنه: "كان الشافعي معي بغزة في منزل واحد. فكان يصنف كتبه بالليل، فقلتُ له: تتعب نفسك تسهر وتفني الزيت وتؤلف كتبا تخالفُ فيها مذهب أهل المدينة، مَن ينظر فيها؟"[14]، وقد ردَّ عليه الشافعي بأن اجتهاده، بعيدا عن مذهب أستاذه مالك بن أنس، سيكون مفيدا لأقوام يأتون من مشرق العالم الإسلامي، وقد صدق الشافعي في حدْسه ذلك.
لم يكن الإمام الشافعي العالِم الوحيد الذي عرفته غزة، بل عرفت مِن قبله ومن بعده علماء آخرين ذكرهم كُتاب التراجم والطبقات في تخصصات علمية مختلفة، مثل وهب بن زياد الحميري من سكان غزة الذي كان يروي عن الصحابي تميم الداري، ومثله عروة بن رويم اللخمي الغزِّي الذي كان يروي عن أنس بن مالك وعبد الله بن قُرط. وقد مرَّ على غزة كبار علماء الإسلام مثل الحافظ الحسين بن علي النيسابوري الذي سمع على أحد أشهر علمائها وهو الحسن بن الفرج الغزِّي، الذي لم يكن من كبار علماء الحديث في غزة فقط، بل في عموم ديار الإسلام في عصره في القرن الثالث الهجري. وقد تلقى علومه في بلاد الشام ومصر والحجاز، وكان حافظا مُحدِّثا على مذهب الإمام مالك بن أنس، سمع عليه كثير من العلماء والحفاظ وأخذوا عنه مثل النيسابوري والتنيسي والمقدسي وغيرهم[15].
وعرفت غزة علماء كبار آخرين مثل ابن وصيف الغزِّي الذي وصفه الذهبي بـ"الشيخ المُسنِد الكبير"[16]، وكان أيضا من كبار علماء الحديث والفقه المالكي، وعرفت كذلك كبار العلماء الوافدين إليها مثل زين الدين يحي بن علي الحضرمي الأندلسي، وكان عالما في القراءات واللغة العربية والشعر والأدب والحديث النبوي، وحرص على لقاء العلماء في المشرق في مصر ودمشق ونيسابور واتجه إلى غزة وأدركه أجله، وبها قبره[17].
لا نكاد نحصي في مقامنا هذا كثرة علماء غزة الذين ذكرهم كُتّاب التراجم، فقد ذكر الذهبي والصفدي وابن حجر والسخاوي وغيرهم عددا كثيرا من هؤلاء الغزِّيين الذين اشتهروا في علوم الشريعة والعربية وغيرها، مثل الشيخ شمس الدين محمد بن خلف الغزِّي من علماء القرن الثامن الهجري والفقه الشافعي الذي "اشتغل وتميَّز وبرع في الفقه وأفتى ودرس وجمعَ وألف كتاب ميدان الفرسان"[18]، وألف عدة مجلدات في فقه الشافعية سمَّاها "زوائد المطلب"، وقد توفي في القاهرة سنة 770هـ.
أما أشهر علماء غزة من المتأخرين، ومن كبار الفقهاء الشافعية وقُضاة الدولة العثمانية في دمشق، بل ومؤرخ مشهور حاذق، فهو شمس الدين بن الغزِّي صاحب "ديوان الإسلام" و"تذكرة أولي الألباب وغيرها". وقد سبقه المؤرخ الأديب نجم الدين محمد بن محمد الغزِّي صاحب التاريخ الشهير "الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة" يستقصي فيه أبرز الشخصيات في القرن العاشر الهجري، وكلا الرجلين من غزة أصولا، لكنهما عاشا وماتا في دمشق، وظلا يتفاخران بحمل لقب "الغزِّي" طوال حياتهما.
ولئن عرفت غزة كبار العلماء والفقهاء والمؤرخين؛ فقد عرفت أيضا أشهر الشعراء مثل إبراهيم الغزِّي الشاعر، وهو رجل عاش في القرن الخامس والنصف الأول من السادس الهجري، وُلد في غزة ولما شب ارتحل إلى دمشق ثم إلى بغداد ومنها إلى خراسان، وفي كل بلد نزل فيه كان ينظُم الشعر. وقد اشتهر في خراسان للغاية وانتشر شعره فيها، وجمع شعره في ديوان، ولما حضرته الوفاة في بلخ شيخا كبيرا أُثر عنه قوله: "أرجو أن يغفر الله لي لثلاثة أشياء: كوني من بلد الإمام الشافعي (غزة)، وأني شيخ كبير، وأني غريب"[19].
ومن شُعراء غزة الذين ذكرهم الحافظ ابن حجر العسقلاني في "الدرر الكامنة" بدر الدين الغزِّي الذي وصفه بالبراعة في نظم الشعر، "وله رسالة سمّاها قريض القرين، تشتملُ على نظم ونثر عارضَ بها رسالة ابن شهيد في النوابغ والروائع"[20]. كما عرفت غزة المشاهير في معرفة النباتات والأعشاب والصيدلة مثل ابن زُقَّاعة برهان الدين النوفلي الغزِّي من أهل القرن الثامن وبدايات التاسع الهجري، وقال الزركلي في وصفه: "إنسان عجيب. من أهل غزة. بدأ خياطا، وقرأ على شيوخ بلده ونظَم كثيرا مما يُسميه بعض الناس شِعرا. وتفرد في معرفة الأعشاب ومنافع النبات فكان يصفُ أشياء منها للأوجاع كالأطباء، ويسترزق بالعقاقير. وتزهد وساح في طلب الأعشاب"[21].
تلك قصة مدينة غزة المتشعبة التي حاولنا أن نلملم شتات تاريخها، وهي مدينة عرفت المعارك الشهيرة، والشخصيات العظيمة في تاريخ الإسلام، ومنها خرج أكابر العلماء والأدباء والمشاهير، ذلك التاريخ العظيم الذي تخضع معالمه اليوم للحصار والقصف والتدمير، بلا هوادة.
_________________________________________________
المصادر
[1] ياقوت الحموي: معجم البلدان 4/202.
[2] عارف العارف: تاريخ غزة ص10.
[3] السابق نفسه ص11.
[4] ابن فضل الله العمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار 3/555.
[5] ابن فضل الله العمري: السابق نفسه.
[6] ابن سعد: الطبقات الكبرى 4/19.
[7] الواقدي: فتوح الشام 1/13.
[8] تاريخ الطبري 1/113.
[9] ابن شداد: النوادر السلطانية ص134.
[10] ابن واصل الحموي: مفرّج الكروب 5/333.
[11] ابن واصل الحموي: مفرج الكروب 5/338، 339.
[12] البيهقي: مناقب الشافعي 1/73.
[13] ديوان الإمام الشافعي ص115.
[14] القاضي عياض: ترتيب المدارك وتقريب المسالك 3/179.
[15] الذهبي: سير أعلام النبلاء 11/37.
[16] الذهبي: السابق 12/345.
[17] الذهبي: تاريخ الإسلام 14/335.
[18] ابن حجر العسقلاني: الدرر الكامنة 5/173، 174.
[19] ابن خلّكان: الوافي بالوفيات 1/60.
[20] ابن حجر: الدرر الكامنة 2/125.
[21] الزركلي: موسوعة الأعلام 1/64، 65.
المصدر : الجزيرة