خوارزميات جنوبية في معنى التصالح والتسامح
يواصل الجنوبيون الإبحار فوق تاريخ عاصف ، وحاضر محتدم بحسابات النخب المتصارعة والمتناقضة . وهم في هذا يصيغون خوارزميات خاصة بالتصالح والتسامح لا تدل ، في مبناها ومعناها ، على أكثر من توجه على هذا الطريق لا تسنده إرادة حقيقية لتحقيق ذلك على أرض الواقع .
في مسارات الحياة المشتبكة مع تعقيدات سياسية واجتماعية وتاريخية ، توفرت الكثير من الفرص للجنوبيين لمغادرة هذا الواقع إلى شواطئ يستطيعون فيها إعادة ترتيب أوراقهم لمواجهة الأعاصير التي يثيرها واقع سياسي مكتظ بالخيبات ، لكنهم كانوا لا يلبثون ساعة من نهار ، ثم يواصلون الابحار بقاربهم إلى قلب الموج المتلاطم ؛ ومن داخل هذا القارب تتعطل خوارزميات التصالح والتسامح ، فيعودون إلى تبادل الاتهامات والتخوين والمنابزة ، متجاهلين الخطر الذي يحيط بقاربهم .
لا يرى كل منهم الخطر إلا في من يقف إلى جواره في القارب ، ويتشكل وفقاً لذلك عنوان للخطر يتفق مع المعطيات الخوارزمية التي بنيت في الأساس بقواعد أفرغت من الارادة الحقيقية في الذهاب بعملية التصالح إلى النهاية المنطقية لها .
هكذا هم الجنوبيون اليوم ، وأقصد نخبهم ،
كلًٌ يدعي وصلاً بالجنوب على طريقته ، وهي ، للأسف، الطريقة التي تعيد بناء الموقف من الجنوب بحسابات مشتقة من ماضٍ وحاضر لا يستطيع أي منهم أن ينكر دوره في صناعته وتكريسه ، سلباً وإيجاباً.
استدعاء الصراعات القديمة عند كل خلاف استهلك الوعي بقيم التصالح والتسامح الذي تنادوا إليه في مناسبات كثيرة .. وكان أن تم تجاهل كل ما كان يمكن أن يوفره من شروط للتلاحم والتفاهم في كل محطة يتعثرون فيها بألغام الماضي وخيبات الحاضر .
شهد الجنوب صراعات سياسية واجتماعية شديدة التعقيد تم تجاوزها في مراحل كثيرة ، ولم يكن بالإمكان توحيد الجنوب المفكك والمنقسم دون تجاوز هذه الصراعات ، التي سيقول البعض أنه لم يتم تجاوزها وأنها ظلت كامنة ، وأقول أن هذا صحيح إلى حد ما ، لكن الدولة الوطنية استطاعت أن تؤسس مرجعية وطنية وقانونية لتفادي الصدمات المرتدة من عملية التوحيد السياسي للجنوب ، ولم يساعدها الاقتصاد على إنجاز عملية الدمج الاجتماعي الذي ظل يعبر عن بطئه بحراك اجتماعي مقاوم لاستكمال بناء هياكل الدولة والذي كثيراً ما كان يتحول إلى صراع في أعلى هرم النظام السياسي ، وهو الصراع الذي كان غالباً ما يتم احتواؤه عند هذا المستوى الفوقي من النظام السياسي ولا يسمح بانتقاله الى المجتمع إلا فيما ندر .
كان الصراع في الحقيقة تجسيدا لقوانين موضوعية ، فإلى جانب الاقتصاد ، كانت نتيجة الصراع طبيعية لعدم استكمال بناء المرجعية السياسية القادرة على استيعاب التناقضات الاجتماعية والثقافية المرحلة من أزمنة سابقة من التفكك والتشرذم الجنوبي ، وهي التي أخذت تخرج بعد ذلك من مخابئها بعد انهيار الدولة لتتعملق من جديد في وجه كل محاولات التصالح والتسامح ، وأخذت النخب تتماهى معها بخفة هروباً من استحقاقات نضالية كان يتوجب عليها أن تخوضها وتحترم تضحيات الناس في سبيلها .
لسنا هنا بصدد استعراض تاريخي لاسباب هذا الصراع وآثاره على بناء الدولة في الجنوب ، وكيفية تخطي هذه الآثار التي لن يوثقها إلا مؤرخ نزيه ، كما لا يجب إقحامها على نحو تحكمي ، كما يفعل البعض ، في دعم هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع ، بقدر ما أنها مادة للاستدلال على أهمية العامل الموضوعي في تفسير الظاهرة التي نحن بصدد الحديث عنها .
إن هذه الظاهرة التي تستولد نفسها في صور شتى من المواجهات بين النخب الجنوبية تكشف عن نفسها في تأثير وتفاعل عدد من العوامل التاريخية والسياسية والاجتماعية ، وعندما تبلغ تحدياتها هذه الدرجة التي يصبح معها التصالح والتسامح مجرد حديث لا يعكس إرادة حقيقية للتوقف عن الابحار فوق التاريخ الملغوم والحاضر المحتدم ، فإنه يتوجب على هذه النخب أن لا تغرق الجنوب في صراعات تفقده القدرة على أن بصبح مكوناً فاعلاً في معادلة وطنية كبرى قادرة على تأهيل اليمن ليقول كلمته في مستقبله ، ومن ضمنه مستقبل الجنوب وفقاً لاختيارات الناس .
حينما تدرك نخب الجنوب أن اختيارات الناس هي القاعدة التي تؤسس المسار السياسي السليم سيكتشفون أن خلافاتهم وصراعاتهم تحلق خارج المدار الذي تتحقق فيه مصالح مجتمعهم .