المشهد اليمني
الخميس 10 أكتوبر 2024 01:08 صـ 6 ربيع آخر 1446 هـ
المشهد اليمني رئيس التحريرعبد الرحمن البيل

الرجل الذي يحسن التفكير

3.237.15.145

المثقف هو الرّجل الذي يُحسن التفكير، حسب المفكر الإيراني علي شريعتي، فهل يحسن مثقفونا التّفكير؟ وهل لا بد لمن يُحسن التفكير أن يكون رجلاً؟ ليس السؤال موجهاً إلى ميراث علي شريعتي بشكل خاص، بل إلى النظرة العامة للمثقف التي غالباً ما تراه رجلاً. وربما هذه مسألة متفرّعة عمّا نريد الخوض فيه، لكنها تُحيل على جوهره؛ فالمثقف الذي قد يكون سابقاً لعصره، لا يسبقه للأسف في مجال التّفكير في مبدأ المساواة الذي يجعل البشر جميعاً، نساءً ورجالاً، وبكل الأعراق، متساوين في التفكير والصّفات البشرية، ولكنه يبقى انعكاساً لمجتمعه في التمييز وفق الجنس واللون والعرق.
يقع المثقف المبدع، مثلاً، في زلات أخلاقيةٍ كبيرةٍ في أثناء كتابته، تبقى شاهدةً على تناقضه إلى آخر يوم في حياة كُتبه. وعلى الرغم من تكرارها، إلا أن هذه الملاحظة تفاجئني كلما وقعتُ على عملٍ مدهشٍ في قوّة الإبداع فيه، بحيث يجعلك تقف وتصفق إعجاباً لكاتبه، لكنه يصدمك في صفحة ما، بموقفٍ يذهب إلى نقيض ذلك كله، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالمرأة، أو بالأطفال. مثلاً، تجد كاتباً أوروبياً يكتب عن اشتهائه طفلة قاصراً في بداية القرن العشرين، أو منتصفه. ما يجعلك تقف متسائلاً عن مشروعه ككلّ؛ هل هو أصيل؟ هل مبادئه التي يعبّر عنها، وتشي بعقلٍ فريد، حقيقية أم زائفة؟ لأنّ هناك أشياء فطرية في تمثّلها قد تغيب عن الإنسان الجاهل الذي هو ضحية منظومة اجتماعية معينة، لكنها لا يمكن أن تغيب عن مثقفٍ كبير، إلّا إذا كان مصاباً بالانفصام أو مريضاً بالبيدوفيليا (في هذا المثال) أو عنصرياً متعصباً إذا تعلق الأمر بأحكام قيمة تحقيرية في حق شعوب وأعراق وثقافات أخرى.
وبالعودة إلى الجزء المتعلق بصفات المثقف المفكر، وما إذا كان مثقّفونا يحسنون التفكير. ثمّة مثال الكاتب الراحل أيمن عبد الرسول الذي انتقد في كتابه "في نقد السلطة والمثقف والإرهاب" المثقفَ العربي وأشكال تمظهراته الفعلية. كتب أن "المثقف العربي انتحر عندما آمن بأن دوره هو نسج قصائد تلحس قدم الخليفة وتمجد عرش السلطان، فآثر العزلة والتقوقع، وأخيراً مات منتحراً بالأيديولوجيا والفلسفات المغتربة عن روح الجماهير". لكن عبد الرسول كان، في كتابه، صاحب موقف أيديولوجي، ولم يكن نقده خالياً من التحامل، في التفريق بين ما يواجه المثقف وما يسعى إليه. ولم يُنصف المثقفين العرب أيام الشعراء المدّاحين، الذين كانوا يفكّرون ويكتبون بعيداً عن القصور ووعود الرّخاء.
ولذلك، نشعر بأن الكتابات عن المثقف تنحدر بمرور الزمن، ليس بالمعنى المعرفي، بل الحديث هنا عن الانحدار الأخلاقي للمثقف. والجدل الذي تبع نشر مقال سليم بركات عن صديقه محمود درويش دليلٌ حيّ وقريب جداً مما يجري الحديث عنه هنا؛ ففي وقت بالغ السّوء يعيشه العالم بأسره، يُثير مقال شاعر عن حياة شاعر آخر ضجة هائلة، هزّت الوسط الثقافي العربي، بشكلٍ لم يشهده عصر التواصل الاجتماعي من قبل. على الرغم من أننا نعيش كلّ يوم أحداثاً مُزلزلة، من اليمن إلى سورية إلى العراق إلى ليبيا وفلسطين... مع وطأة الوباء الذي زاد الأوضاع درامية. ما يعني أننا أمام أحداثٍ تُلزمنا بمواقف قوية، لا نرى صداها في الوسط الثقافي، مثلما كان صدى مقال سليم بركات. ولعل تفسير انتحار المثقّف يُفيد في وصف هذا الانحدار. كذلك فإن صفة المثقف كثيراً ما تُطلق على نماذج هجينة، لا تمثّل الثقافة؛ فهي شبيهة بشعراء الخلفاء الأمويين والعباسيين وغيرهم، على الرغم من فارق الزمن.
وربما لأننا نواجه تداخلاً في تمثّلنا للمثقف، الذي ليس بالضرورة ذلك الكائن الذي تلقّى تعليماً عالياً، ولا يجيب إلّا على نداء يحمل صفة "الدكتور" أو "الأستاذ". ولا ذاك الذي يتباهى بحداثة مزوّرة، يربطها بالتردّد على الحانات مستعيناً بالبيريه، ليستكمل مظهر المثقّف العصري، متحرّشاً بكل ما يؤنّث. ولا هو ذاك الذي ينتقل بين وسائل الإعلام للحديث عما لا يعرف، مستخدماً جملاً مكرّرة تتّسع لكل سياق، بـ"جبهة عريضة" لا تستحي. يُصبح معها محلّلاً وخبيراً وعارفاً ومتخصّصاً في كلّ شيء، من السّياسة إلى الفقه، مروراً بالفنون والآداب... يدفعُ بكلمات محشوّة، تدرّب عليها أمام المرآة، مدةً تكفي ليقتنع الصّحافيون الكسالى بأنّه الضّيف المثالي للتّعليق على كل حدث كيفما كانت طبيعته. إنّه الوحيد الذي يجلس بجوار الهاتف، ملبياً كل نداء، مع قليلٍ من الدّلال الذي لا يعني أنّه لا يريد، لكنّه لا يرغب في أن يعتقد الآخرون أنه سهل المنال إعلامياً. وهو أيضاً ليس المثقف الذي أصبح خبيراً، "بتاع كُلّو"، الذي يمثل النّموذج الأبرز للمثقف العربي.
بدلاً من ذلك، من المنصف أن نُدير الدفة، ونستمع إلى المثقف "الهامشي"، المُستغني عن كل شيء؛ وباع الجمل بما حمل، لا مصلحة له في شيء، ولا أمل، ولا طموح. مثقف حزين بمآل الأمور، ومقتنع بأن لا فائدة. حتى الكتابة التي يجيدها لا تعود مهمّة، لأن لا قارئ في الأفق، ولا مكترث بما يقوله. لذا، من الأفضل أن يوفّر عليه العبء، ويرتاح من همّ الكتابة ويُريح وسطه الذي تحمّل غرابته، واختلافه؛ زوجته شبه الأمّية، وأمه التي لا تعرف ما يكتب، سيريحهما أخيراً، ويلمّ كتبه من كل ركنٍ في البيت، ويتابع مزاجه وهو يتلوّن مرات عديدة في اليوم. إنّه مثقفٌ مهمّش بنظره، لأنّه لا يملك "جبهة" يروّج بها بضاعته، وهو مهمش في نظر الآخرين، لأنّه لا يحظى بما حظي به زميله الأول. يعرفون أنّه الأفضل، لكن بما أنه لم يروّج لنفسه جيداً، فهو الملوم عن انصراف الآخرين عنه.
هذان النوعان من المثقفين، مع تشكيلة واسعة أخرى من فصيلتهما؛ ابتداءً من ذاك الذي انتقل من نِدّية السياسي، إلى مُطبّل له، من الراكض خلف الأضواء، إلى ذاك المنزوي في الهامش، المتباكي من التّهميش والإقصاء المتعمّد... يتقاسمون جميعاً الخريطة الثقافية لكل بلد وثقافة. في زمنٍ أصبحت فيه وسائل التواصل "المركز الثقافي الافتراضي" البديل، مجالاً للتجاذب، والاستعراض بالنسبة إلى البعض، والبكاء والشكوى من إقصاء ما للبعض الآخر. من يقصي من؟ وما المقصود بالإقصاء؟ وما الذي ينتظره المثقف؟
رأى إدوارد سعيد، في كتابه "صور المثقف"، أن المثقَّف هو ذلك "المحترف والفنّي الذي يفرُّ من القيود، ومن خلال أعماله يقول الحقيقة بصفة انفتاحية لا تجلب الاستياء مهما كان بوهيمياً. لأنّه ملزم بأن يُسمع صوته للناس، وأن يُثير المناقشات والاختلافات، وإن أمكن الخلافات، لأنَّ البدائل لا تتمثَّل في الخمود الكامل أو في التمرُّد الكامل". كما يجب عليه أن "يواجه كلِّ أنواع التّنميط والجمود، لأنَّ المثقَّف عموماً لديه الفُرصة بأن يكون عكس التيار". لا يشترط سعيد في المثقف أن يكون أكاديمياً، بل يمكن أن يكون ذلك الفارّ من "المواقع المخصَّصة"، لكيلا تنحصر صفة المثقَّف في أستاذ الأدب الذي يعيش منعزلاً في خلوته، ومنفصلاً عن الحياة العامَّة. بل لا بدَّ أن يكون ذلك "المستقلَّ الذي لا يمكن النّيل من استقلاله". هذا المثقف، حسب إدوارد سعيد، يصعب على الحكومات أو الشّركات استقطابه، لأنَّهم لو تمكَّنوا من استقطابه، فقد بُعده النقدي.
إضافة إلى ما سبق، هناك كاتبٌ فرضته كتابته، ومع ذلك يُفضّل الابتعاد عن الأضواء، وعن الغوص في ما هو عام، وهناك كاتبٌ لم تسعفه كتابته، ويبكي من التّجاهل؛ الأول يكتفي بحظوة الأدب، والثاني يعيش تعاسة فقدان الموهبة، والتّقدير المفترض في رأيه لجهوده في التعلّق بالكتابة رغم عنائها، وجَدبِ عطائها له. إنّها الفسيفساء البشرية في تعددها وتداخلها، لكن الحَجر الكريم يُعرف ولو بين جبلٍ من الزّجاج.

المصدر: عائشة بالحاج - المغرب (العربي الجديد)